من أرشيف الثقافة (3).. هل سرق حسن أبو علي المعزة أم اقتبسها؟
تزخر الحياة الحياة الثقافية بالكثير من اختلاف وجهات النظر بين الأقران من الكتاب أو بين الكتاب وأساتذتهم، وفي كثير من الأحيان يفض الخلاف إلى اندلاع معارك أدبية كبرى، من هذه المعارك معركة الناقد الدكتور محمد مندور والناقد الدكتور رشاد رشدي حول أدب الكاتب الإنجليزي إرنست همنجواي وقد تناولها الدكتور محمد مندور في كتابه معارك أدبية، حيث يعرض وجهة نظر رشاد رشدي ويفندها كما في السطور التالية.
كتب الدكتور رشاد رشدي في جريدة أخبار اليوم مقالا يهاجم فيه النقاد العرب الذين يطلبون من الأديب أن يقول للناس شيئا نافعا وجميلا من خلال عمله الأدبي. وقد أشفق الزميل على الكاتب الأمريكي الكبير همنجواي من أن يقع بين أيدينا فنذبحه لأنه، فيما يزعم الدكتور رشاد، لا يحرص على أن يقول للناس شيئا ولا أن يعبر عن فكرة عامة في أي قصه من قصصه، واستشهد على ذلك بقصة قصيرة لهمنجواي عنوانها "الرجل العجوز عند الجسر" وهي عن الحرب الأهلية الإسبانية التي شنتها كتائب الرئيس فرانكو على الأحزاب اليسارية في إسبانيا سنة 1936 وقد صور فيها همنجواي شیخا إسبانيا عجوزا يرفض أن يغادر قريته رغم صدور الأوامر العسكرية له بذلك، وهو يتمسك بالبقاء في قريته رغم ما يهدد حياته من خطر لأنه لا يريد أن يتخلى عن قطة ومعزة يرعاهما ولا يسمح له بأن يستصحبها معه، وعندما يشدد عليه العسكريون الأمر يصيح فيهم قائلا إنه لا يستطيع أن يتخلى عن قطته ومعزته ثم يضيف أن القطة قد تستطيع أن تدبر أمرها وأما المعزة فضعيفة الحيلة ولا سبيل لها إلى الحياة بدونه، ولذلك قرر ألا يفارقها، وأن يبقى معها في القرية.
ولست أعرف اختيارا أسوأ من هذا الاختيار في التدليل على فكرة رجعية ميته، فالزميل الدكتور رشاد يزعم أن هذه القصة ليست وراءها أية فكرة إنسانية وإنما هي قصة فحسب أو كما يقول "هي ما هي" مع أن هذه القصة لا تقوم على فكرة إنسانية رائعة فحسب، بل تقوم أيضا على إحساس إنسان بالغ النبل والقوة، وهي في رأيي ورأي كل قارئ منصف ليست قصة هادفة فحسب، بل هي قصة هاتفة بأقوى صوت وأعظمه نفاذ إلى القلوب ضد الحرب وويلاتها التي لا تصيب الإنسان وحده بل تصيب أيضا الحيوانات الأليفه وكل ما يربطنا نحن البشر بالحياة المادية والعاطفية على السواء حتى لا يحس الإنسان بأن نجاته الخاصة من هولها ومحافظته على حياته منها لا تكتمل الفرحة به مادامت تلك الحرب لا بد أن تصيبنا في الأشياء الأليفة الحبيبة إلى نفوسنا كقطة الشيخ العجور ومعزته اللتين يرمزان في هذه القصة الإنسانية الرائعة إلى مختلف الروابط العاطفية والمادية التي تربطنا بالحياة والتي إذا انقطعت ضمرت الحياة في نفوسنا وفقدت طعمها، وبالتالي انطفأت فرحتنا بها وأصبحت هي والموت سواء، بحيث لا تعود شيئا يحرص المرء على حمايته، وهذا هو ما فعله الرجل العجوز ذو النفس الطيبة الخيرة التي أحس بأنها ستضمر وتجفف دون صاحبها إذا تقطعت روابطه العاطفية بحيواناته الصغيرة الحبيبة الأليفة التي ترمز كما قلت إلى روابط الحياة.
ولست أدري كيف لا يعلم الزميل رشاد رشدي أن "همنجواي" إذا كان قد منح جائزة نوبل فإن ذلك لم يكن لأنه قد كتب قصصا من نوع "هي ما هي"، بل ولم يكتب شيئا على الإطلاق من نوع الأدب الذي يعتبر من قبيل الفن للفن، بل ولا من نوع الأدب الذي نسميه "الأدب الصدى"، ونعني به الأدب الذي يقتصر على تسجيل أصداء الحياة وأحداثها دون هدف توجیهي أو فكرة قيادية بل كان أدبه كله من نوع الأدب الذي نسميه، "الأدب القائد" أي الأدب الذي يسعى إلى قيادة البشر وتطوير حياتهم وعقولهم ومشاعرهم نحو ما هو أفضل وأكثر إسعادا للبشر، والرواية الكبيرة التي نال عنها جائزة نوبل وترجمت إلى لغتنا العربية في جزأین کبیرين يستطيع أن يقرأهما أي قارئ عادي، يشهد عنوانها نفسه بحقيقة الصفة التي يجب أن تطلق على أدب همنجوای وهي أنه من "الأدب القائد"، وهذا العنوان هو "لمن تدق الأجراس"، ویعني به همنجواي أجراس الخطر الذي يهدد العالم والإنسانيه كلها من جراء حروب الدمار والعدوان، والفناء الشامل للإنسانية كلها بما فيها الشيخ العجوز والجسر وقطته ومعزته.
وهكذا نخلص إلى أنه لا خوف إطلاقا على همنجواى وأمثاله من الكتاب العالميين الكبار الذين يسعون إلى قيادة الحياة نحو ما هو أفضل بالتوجيهات الإنسانية الرفيعة التي تشع من أعمالهم الفنية حتى تكاد تخطف الأبصار بسناها الجميل وإنما الخوف على همنجواي وأمثاله من صغار النقاد الذين تبدو أوضاعهم الاجتماعية لسوء الحظ فضفاضة عليهم لأنهم أصغر من أن يملؤها فحاولوا تعويض النقص بالهجوم على رواد الزحف القدس والتقدم الدائم بمجتمعنا وإنسانيتنا كلها بمطالبتهم الأدباء والفنانين بأن ينهضوا بمسئوليتهم في قيادة المجتمع والحياة بدلا من أن يظلوا غارقين في تفاهات و الفن للفن ، أو الفن للإنحلال الأخلاقي الذي نشفق منه على حياتنا وإنسانيتنا، ولقد يكون في جمهورنا لسوء الحظ من لا يزال يقبل على قصص ومسرحيات الانحلال ولكننا نؤمن بأن هذا الجمهور نفسه قد شق سبيله نحو بلوغ سن الرشد العقل والأخلاق.
ولكل هذه الحيثيات ترانا نؤمن بأنه لا خوف على همنجوای منا نحن النقاد العرب بل إننا على العكس لنرحب به ونفتح له ولأمثاله من أدباء القيادة صدورنا وندعو كتابنا ونقادنا إلى أن يتخذوا من همنجواي وأترابه قدوة صالحه ومثلا يحتذى.
وأما باقي ما ورد في مقال ومقالات الدكتور رشاد رشدي عن محاسبتنا لبعض أدبائنا عن سلبيتهم وصدورهم في بعض قصصهم أو مسرحياتهم عن روح انهزامية أو هاربة من مسؤولية الحياة أو داعية إلى الانحلال الأخلاقي باسم المذهب الطبيعي أو غيره فهذه أقوال مجمع عليها أو هي مرحلة تخطتها الإنسانيه و إذا كان الأدباء في عالمنا العربي، أو في الأداب العالمية لا يزالون يصدرون عن مثل تلك الروح فإن الشعوب نفسها هي التي ستقوم بقتل هذه الروح والإجهاز عليها لا النقاد، وذلك لأن شعوب العالم كله قد انتشر فيها الوعي واستحصد وأصبحت تحس كلها بل وتؤمن بأنها تخوض معركة الحياة الجديدة وهي معركة لا بد أن تتسلح لها تلك الشعوب بروح إيجابية فعالة وقدرة حية إلى مقاتلة الصعاب ودحر قوى الباطل والعدوان والظلم والاستدلال، والأدباء والنقاد هم رواد هذه الروح الجديدة وقادتها وهم في عملهم هذا پسایرون روح العصر ومنطق التقدم الذي يؤمن بالنصر النهائي وبقدرته الخارقة على أن يطهر الحياة من كل عفن ترسب فيها وأن يحرق بلهيب الروح الثور به جميع دعاة الرجعية والانهزامية والسلبية والانحلالية وكلها من صفات دعاة والفن للفن.