الحنين للوطن.. المهجرون في 48 و67 عن تغريبة 2023 بغزة: خذلهم العالم وليتنا نعود للموت بديارنا
أمام شاشات التلفاز، جلست المعمرة الفلسطينية صفية أبو هزاع، صاحبة الـ91 عامًا تتابع مشاهد نزوح الغزاوية وترك الديار رغم الحسرة، بعدما ضافت بهم السبل في البحث عن مكانٍ آمن، بينما يعتصر قلبها لما تراه، تتذكر وهي منهمرة في البكاء، يوم أن تم تهجيرها من الديار في الهجرة الأولى سنة 1948، تضرب على رأسها، ويتمالكها الحنين للوطن رغم ما حل به من خراب على يد معتدٍ غاشم، ثم تقول: يا ريت ارجع تاني أموت هناك ولا إني اتهجر.
صفية.. مُعمرة فلسطينية هاجرت في 48 و67 وتابعت التغريبة الأخيرة
على مدار أيام العدوان الإسرائيلي على غزة، والمعمرة الفلسطينية، تخشى الوصول لتلك النقطة، ترى همجية قوات الاحتلال، ومشاهد الدمار والخراب، وبحور الدماء والمقابر الجماعية مكتظة بالشهداء، وتجفيف صنابير المياه، ومنع الخبز، ينتابها القلق من مخطط إسرائيلي يشبه ما حدث في 48 يوما أن تم تهجيرها رفقة أسرتها، وكذلك 1967 يوم أن هاجرت حاملة اثنين من أبنائها على كتفها أحدهما كان عمره 6 شهور.
بعربات تجرها الدواب الكارو، ومشيًا على الأقدام، وقليلٌ من المتاع قد لا يكفي نحو يومين فقط، تابعت السيدة العجوز، مشاهد نزوح السكان هربًا من بطش الاحتلال الغاشم، رأت الأطفال وأمهاتهم تتحمل عنهم مشقة سفر دام 5 ساعات، تتذكر أيام قضتها دون طعام، وتحملت المشقة ذاتها وربما أصعب في السابق، فيما عرف بـ "نكبة 48"، تبتلع ريقا تملأه مرار الأيام، ثم تقول بصوبٍ يخرج بالكاد: "نفسي ارجع ادافع عن الأرض، ولو كان التمن موت".
وعدونا بالعودة بعد انتهاء الحرب وحتى الآن لم نعد
الحال ذاته، هو حال الصحفي الأردني خالد أبو هزاع، الفلسطيني الأصل، والحالم بالعودة للديار، فعلى مدار 56 عامًا، وهو يحلم باليوم الذي يعود فيه لأرضه، بعد الوعود الإسرائيلية لهم سنة 67 بالنزوح قريبًا من الأردن والعودة فور الانتهاء من الحرب، "وحتى الآن لم يعودوا" كما يقول في إشارة إلى أن النازحين أو المهاجرين الآن حسبما يطلق عليهم “خذلوا من العالم، ولم يجدوا أمامهم سوى هذه الخطوة”.
يروي "أبو هزاع" كواليس نزوحهم ومغادرتهم الديار، حينما كان ابن الـ6 أعوام، بقوله: كنت وقتها بلعب في الأرض، وكان موسم حصاد القمح، وما كنت بعرف إنه ممكن يكون حرب"، حينها أُحرقت الأرض بمن فيها، إلا أنهم تمكنوا من إخماد النيران، وفر مع والده إلى المنزل يختبئ من قصف طائرات الاحتلال، ومع تصاعد وتيرة القصف، نصح والده أمه "صفية" بأن تأخذ الصغار وتذهب للجبل، خوفًا من أن يطالهم الرصاص العشوائي الغاشم، "قضينا وقتا صعبا في الجبل لحد ما والدي جه لينا، وبلغنا إننا هنتحرك على الأردن"، مشيرا إلى أن قوات الاحتلال كانت قد تمكنت من حدود الـ67، ومنعت أي حي من أن ينعم بحياته، "كان عندهم جنون وهمجية خليتهم يدبحوا اللي يشوفه".
ومن فلسطين وصولًا إلى نهر الأرض، حمل والد خالد، اثنين من إخوته بينما حملت والدته اثنين، صيف عام 67، "كان الجو فوق الأربعين درجة مئوية، بس مكنش فيه مية، فقدرنا نعدي النهر"، وظلت الرحلة الصعبة التي استغرقت نحو 3 أيام وصولًا للضفة الشرقية للأردن، ويحكي عن معاناة المهاجرين: "مكنش معانا أي مؤن سوى رغيف خبر، وكانت والدتي تخبيه في صدرها لأخي صاحب الـ6 شهور، وكانت تخرج منه قطمه ثم تضعه في المياه ولإطعامه، فيما كنا نبقي نحن، فتصبرنا أمي بأن والدي سيأتي لنا بالطعام"، وظلوا جوعى حتى وصلوا إلى الأردن وعاشوا نحو عامًا مع أحد أقاربهم، وبعدما قرروا العودة منعتهم قوات الاحتلال بعد انتشار الجنود على الحدود الجديدة، واستقرت حياتهم بالأردن حتى الآن، "فلسطين الأم التي ولدتني والأردن الأم التي ربتني، لكني بحلم بالعودة وشايفها أقرب ليا من نفسي طول الوقت.. ونفسي أموت في بلدي".
مصير مجهول في انتظار النازحين من غزة
من أقصى الشمال، وصولًا إلى الجنوب، قطع الشاب الفلسطيني أحمد الملا، طريقًا طويلًا استمر نحو 5 ساعات وأكثر، قادمًا من جاليا، بعدما ضاقت به السبل في البحث عن عيشٍ آمن، وسط القصف المستمر، وتكميم مستلزمات الحياة، “بعيدًا عن الرعب والضرب ليل ونهار، مبقيناش لاقين لا مية ولا خبز ولا حتى المية المالحة”، لم يعلم ما يخبأه له القدر، وما إذا كان سيعد يومًا إلى الديار، أو سيصبح مصيره مثل الحاجة صفية، وخالد أبو هزاع، وغيرهم من الذين عاشوا مرارة التهجير في عامي “48 و67”، إحنا مش عارفين لوين رايحين ولا وين هنستقر، كما يقول.
هربًا من الأوضاع المأساوية، ووسط حالة من التخاذل وعدم الأمل، فر “الملا”، مع أسرته نحو الجنوب، بعد تحذيرات إسرائيلية لهم بترك الشمال والنزوح نحو الجنوب، حيث يقول: “سحبنا حالنا وشردنا، بعد تحذيرات إسرائيلية وتماديهم في الجرائم”، مشيرًا إلى أن مشاهد النزوح كانت صعبة هي الأخرى، “هناك المصابين والجرحى، وشيوخ يحملهم أبناؤهم، وصغار يحملهم آباؤهم وأمهاتهم نحو 5 ساعات"، وكل تلك المعاناة تهون في أعينهم وتذوب المشقة من على صدورهم، مقابل الحصول على مكان آمن وملاذ يحجبهم عن بطش الاحتلال الغاشم.. آملين في العودة يومًا ما.