الأحد 28 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

تزامنًا مع لقاء الأهلي وسيمبا.. كيف تناولت أعمال توفيق الحكيم كرة القدم؟

القاهرة 24
ثقافة
الثلاثاء 23/فبراير/2021 - 04:16 م

في كل لقاء كروي تسود حالة من اللغط والجدل بين عشاق الكرة المصرية تتنوع هذه الحالة بين تكهنات للمباراة غالبا ما تكون متضاربة ومتفاوتة بين المبالغة من قبل عشاق فريق معين بفوز فريقهم الساحق، وبين التوازن في توقع نتيجة معقولة للمباراة وصولا إلى حالة كل متابع والتشجيع أثناء المباراة أو الجدال حول أولوية الفوز أو عدم عدالة الحظ  مع فريق بعينه بعد المباراة.

هذه الأمور لم تكن لتغيب عن الكتاب في أعمالهم وخاصة الأعمال السردية، حيث عالجت الأعمال الواقعية على وجه الخصوص، ظاهرة الكرة المصرية ومزاج المصريين في التعامل معها، وبمناسبة مباراة اليوم بين الأهلي وسيمبا التنزاني ننشر فصلًا من كتاب "كرة القدم في الرواية المصرية" للكاتب الصحفي والروائي والناقد مصطفى بيومي يرصد فيه معالجة الكاتب الكبير توفيق الحكيم لهذا الأمر.. وجاء الفصل كما يلي:

يردد الكثيرون مقولة توفيق الحكيم ذائعة الصيت: "انتهى عصر القلم وبدأ عصر القدم"!، وهي العبارة الساخرة التي تتحول عند بعض مردديها إلى ما يشبه الدليل اليقيني القاطع على وجود تناقض حتمي بين كرة القدم والفكر. الأمر على هذا النحو لا يمكن أن يستقيم، فالحياة الإنسانية تتسع للاعبي الكرة والأدباء والمفكرين، اتساعها للممثلين والراقصات ورجال الأعمال وأصحاب المهن والحرف والعمال والفلاحين. تختلف درجة الثراء والمكانة الاجتماعية وحجم الشهرة بطبيعة الحال، لكن التجاورية قائمة بين هؤلاء جميعًا، ولكل منهم دوره الذي لا تكتمل خريطة الحياة إلا به.

قبل عامين من ثورة يوليو، يحاور توفيق الحكيم عصاه، يوليو 1950، مقارنًا بين كرة القدم المصرية ونظيرتها العالمية. يرصد براعة اللاعب المصري الذي لا يقل مهارة وموهبة عن أقرانه الأوربيين، لكن الفرق المصرية، وقوامها من هؤلاء الأفراد المتميزين، لا تحقق نجاحًا يُذكر في مبارياتها، ذلك أن الفردية تسود والأداء الجماعي المنظم لا وجود له.

الحديث في ظاهره المباشر عن كرة القدم، لكن النتيجة المستخلصة من التحليل الكروي تتعلق بمجمل النظام الاجتماعي السياسي الثقافي، وتقتحم جوهر الموقف من الحضارة وقيمها في الواقع المصري. يتأكد ذلك التوجه عندما يضيف: "التيم المصري كل فرد فيه يلعب مستقلاً عن المجموعة، وتطغى عليه براعته الخاصة، فيتصور أن في إمكانه أن يقذف الكرة إلى الهدف بقدمه وحدها.. ويؤدي ذلك إلى ضياع الرابطة بينه وبين زملائه اللاعبين، وإلى اختلال النظام الذي يجعل منهم وحدة منسقة، فإذا الفريق مفكك، واللعب مرتجل، والمصادفة هي التي تقرر النجاح أو الفشل".

هيمنة الفردية، في كرة القدم وغيرها من مناحي الحياة، داء مصري عضال مزمن، يقود إلى الأغلب الأعم من المشاكل والهموم التي تستعصي على الحل، ويحول دون التقدم المنشود المأمول. هذه السمة هي الملمح الأساس في إيقاع الواقع المصري قبل ثورة يوليو، فهل يتغير الأمر بعدها؟!.

في مسرواية "بنك القلق"، 1971، التي تجمع بين الشكلين الروائي والمسرحي، منتقلة من فصل سردي إلى آخر حواري، يقدم الحكيم رؤية مهمة بالغة العمق عن ملامح وسمات المجتمع المصري في العهد الناصري، حيث احتكار السلطة لكل المفردات الحيوية في إيقاع الحياة السياسية والاقتصادية، والإهمال الكامل للأفراد وإنكار حقوقهم المشروعة في التعبير والمشاركة والشعور بالتحقق الذاتي.

ما الداء الأكثر خطورة في العهد الثوري الجديد، الذي يزيح النظام البائد المتهم بالإيغال في الفردية؟. إنه القلق، ذلك المرض الغامض الشائع المنتشر، الذي لا ينجو منه الأغنياء والفقراء على حد سواء. البنك، محور بناء مسرواية الحكيم، مشروع غرائبي غير تقليدي يتبناه الصديقان أدهم وشعبان ويتعامل مع المصابين بالمرض العصري متعدد الوجوه والأسباب، وفي صياغة الإعلان عن المشروع ما يكشف عن خلاصة الفكرة وجوهر المعالجة: "القلق، كلنا مصاب بالقلق من أجل شيء ما. إذا كنت مصابًا بقلق فاحضر إلينا نعالجك. وإذا لم تكن مصابًا فاحضر إلينا وعالجنا. وهي تجربة طريفة، فلا تضيع فرصة هذه التجربة".

يقدم الزبائن المترددون على البنك شهادات مهمة متنوعة عن الواقع المصري وهمومه التي تنتج القلق، وتحول المرض إلى ظاهرة راسخة مستقرة تطول شرائح متعددة، مختلفة الأصول الاجتماعية والتوجهات الفكرية: الشعور بعدم الاستقرار خوفًا من ضياع ما تبقى من الأملاك في ظل النظام الناصري ذي التوجه الاشتراكي، غياب العطور الباريسية الحديثة عن الأسواق المصرية، الفشل الدراسي للأبناء المراهقين جراء الوقوع في أوهام الحب المبكر غير الناضج، الهستيريا الثورية التقدمية التي تنفر من التيارات الرجعية المحافظة وترى فيها خطرًا داهمًا، الاستياء من شيوع الإلحاد والانفلات الأخلاقي والاستهتار بالدين وتهديد القيم الموروثة الجديرة بالاحترام والتقديس، التخوف من نهاية العالم الحافل بالأحداث المثيرة والتحولات الجذرية غير القابلة للفهم والاستيعاب، ضياع الضمير وتراجع الإتقان والدقة في العمل، مرارة الوحدة الطاغية ومعاناة الكتمان والعجز عن البوح والتنفيس، ارتفاع الأسعار وأزمة المساكن، صراع الأجيال وتزايد حدة التناقض بين الأفكار المتباينة المتعارضة.

الاستهانة بأي من الهموم والمشاكل السابقة ليس واردًا أو منطقيًا، فالأمور كلها تتحرك في دائرة النسبية، وما قد يبدو تافهًا غير جدير بالاهتمام من القضايا، مثل غياب العطور الفرنسية، ربما يمثل العنصر الأهم والأكثر خطورة عند من يرون في الغياب كارثة تعكر صفو الحياة.

يقدم الحكيم عينات من مظاهر القلق عبر تسعة زبائن يترددون على البنك، ولا تغيب كرة القدم كمصدر لصناعة القلق والتوتر عند المتطرفين في تشجيع الأندية إلى حد الهوس الهستيري، ولاشك أن ظاهرة كهذه تتجاوز حدود الرياضة الشعبية لتعبر عن حالة المجتمع المسكون بالفراغ والخواء، ما يدفع إلى البحث عن انتماء يضفي المعنى والجدوى.

الزبون الرابع، الذي لا يحمل اسمًا مثله في ذلك مثل الزبائن جميعًا، مسكون بالحماس الزائد في متابعة المباريات وتشجيع نادي الزمالك، الذي يمثل جوهر حياته والمعنى الوحيد فيها. يجاهر بالانتماء إلى "حزب" الزمالك، وكراهيته أصيلة عميقة للأندية- الأحزاب الأخرى. أندية الكرة هي الأحزاب البديلة الهشة في ظل هيمنة التنظيم السياسي الوحيد الذي يحتكر بلا منافسة ويتحول إلى جزء من النظام. يشكو الزملكاوي المتطرف من المشاكل الخطيرة التي تترتب على انتمائه: "ما من مرة حضرت فيها مباراة بين الزمالك والأهلي إلا وأحدثت كارثة!".

ما طبيعة الكوارث التي تترتب على مشاهدته للمباراة الأكثر أهمية وشهرة في تاريخ كرة القدم المصرية؟!. يقدم نموذجًا لهذه الكوارث في قوله: "حصل مرة أن الزمالك كاد في الشوط الأخير يصيب الهدف، لولا اصطدام الكرة بخشبة المرمى. لم أطق. ولم أشعر بنفسي. وإذا يدي التقطت شيئًا لم أفطن إذا كانت عمامة أو كاسكيت، فوق رأس الشخص الذي بجواري، وقذفت بها في الهواء، وسط الملعب.. وبالطبع حدث هياج حولي وخناقة، خصوصًا وقد اتضح أن صاحب غطاء الرأس هذا الذي طار في الهواء هو حيوان أهلاوي..".

من البدهي أن يتفاعل المشاهد مع أحداث المباراة، والانفعال بالفرص الضائعة جزء أصيل من متعة كرة القدم، لكن رد الفعل في حالة الزبون الزملكاوي يبدو متطرفًا بما يتجاوز حدود الاعتدال، ذلك أنه يؤثر سلبًا على المحيطين به ممن يتعرضون للأذى جراء حركاته الهستيرية، واللافت للنظر أنه يصف المشجع الأهلاوي الذي يجاوره في المدرج بأنه "حيوان أهلاوي"!. لا صلة تجمعهما، ولا معرفة سابقة تتيح إصدار مثل هذا الحكم العنيف المتشنج المسرف في القسوة والبذاءة، لكن "الآخر" بالضرورة جدير بالازدراء والاحتقار. النادي الأهلي "حزب" منافس، وأعضاء الحزب بالتبعية أعداء ألداء!.

الانفعال بتسجيل هدف للزمالك يتخذ طابعًا أكثر حدة وتطرفًا من رد الفعل على ضياع الفرصة، ويوشك المتطرف في التعبير عن فرحته أن يرتكب جريمة قتل:

"- وفي مرة أخرى تحمست لهدف عظيم أحرزه الزمالك، فلم أشعر إلا ويدي قد تناولت طفلاً صغيرًا من حجر أمه الجالسة بجواري ورفعته في الهواء..

- وقدفت به في الملعب؟!

- لا. من حسن الحظ أدركوني.. ولكنهم أشبعوني لطمًا وشتمًا.. وأنا أصرخ.. هذا شيء غصب عني يا ناس!".

في حمى الانفعال والتفاعل، لا فارق عنده بين العمامة التي تعلو الرأس والطفل القابع في حجر الأم، ولاشك أن الجزاء الذي يناله، لطمًا وشتمًا، مستحق عادل، يتوافق مع فعلته الحمقاء، لكنه يأبى الاعتراف بالخطأ الجسيم، ويلتمس لنفسه الأعذار والتبريرات التي تحتم الاستيعاب والغفران!.

لا يختلف السلوك المنفلت خارج الملعب، فالمناقشات حول الكرة تتخذ طابعًا عصبيًا عنيفًا يقف بالزملكاوي العتيد على حافة ارتكاب جريمة قتل تطول الأهلاوي الذي يحاوره. في حديث الزبون مع أدهم، أحد مؤسسي البنك، ما يكشف عن المناخ العام صانع التطرف، والذي يتجاوز كرة القدم ليجسد إيقاع المجتمع المصري الناصري في ظل غياب التعددية السياسية وحرية التعبير:

"- أهلاوي مغفل.. جعل يناقشني ويتحداني ويستفزني ويقول إن الأهلي هو الأصل وإن الدهن في العتاقي.. وكلام فارغ من هذا القبيل.. كان في جيبي وقتها مطواة كبيرة، ما أشعر إلا وقد أخرجتها وفتحت سلاحها وهجمت به عليه..

- وطعنته؟

- توسط بيننا أولاد الحلال، ونصحوني أن أعرض نفسي على طبيب. لكن بصرف النظر عن كل شيء.. هذا الوغد الأهلاوي أما كان يستحق؟".

الآخر المختلف مدان دون ذرة من الشك، والتهمة الوحيدة هي أنه آخر مختلف!. كل ما يقوله الخصم الأهلاوي "المغفل" مرفوض محتقر لا يستحق الاهتمام والاحترام لأنه "كلام فارغ"، بل إن الصبر على الاستماع ليس مطروحًا. المعارك الكلامية العنيفة شائعة في أوساط مشجعي كرة القدم في كل زمان ومكان، والحوارات المحتدمة تمزج عادة بين القليل من الجدية والكثير من السخرية، لكن الانتقال إلى محطة إشهار السلاح والتهديد بالقتل والشروع فيه ينم عن عدوانية بغيضة، تؤكد أن العلة ذات أسباب أعمق وأخطر، تتجاوز التشجيع التقليدي. يقترب الأمر من المرض النفسي، وأهم علامات المرض ذلك الإصرار الذي يتشبث به المشجع الزملكاوي كأنه يمتلك اليقين والحقيقة المطلقة. وصف الخصم بكل رذيلة مشينة، ينبئ عن طبيعة المناخ العام الذي تترسخ فيه لعنة الصوت الواحد والرأي المتسلط الذي لا يتخيل وجود آراء واجتهادات مغايرة.

الزمالك والأهلي حزبان بديلان، والانتماء إليهما بمثابة التعويض المتاح بعد تراجع وضمور القنوات الأخرى التي تتيح التنفيس عن المشاعر والأفكار التي لا متسع للبوح بها في ظل غياب الأحزاب وهيمنة النظام الذي يحكم منفردًا، ويحول بين الأفراد العاديين وحقهم المشروع في الشعور بالتحقق والخصوصية التي تنأى بهم عن الانخراط في منظومة فكرية وسياسية أحادية سابقة التجهيز. جوهر الأزمة الحقيقية يتمثل فيما يقوله المشجع الزملكاوي مبررًا سلوكه المفرط في الحماس والانفعال غير المحسوب: "أنا بغير هذا الانفعال أشعر أن حياتي راكدة. أنا لا أريد الذهاب إلى الطبيب، حتى لا يعطيني مهدئات لأن هذا هو ما سيفعله. تذهب إلى الطبيب فيقول لك توتر أعصاب، ويكتب لك المهدئ. أنا يا سيدي متحمس. ويجب أن أتحمس لوجهة نظري. لمبدئي. لعقيدتي. لماذا تريد إطفاء حماسي..".

من التبسيط المخل أن تُعالج ظاهرة الهوس الكروي هذه في إطار المرض النفسي الفردي، فالعلة كامنة في الحياة الراكدة الرتيبة ذات الإيقاع الآسن. إنه يبحث عن مبدأ وعقيدة وانتماء، فإن لم تكن الفرصة متاحة في الساحتين السياسية والفكرية، فلتكن كرة القدم هي البديل المتاح!. الموت عند المشجع المسكون بالحماس غير المحدود أفضل من الحياة الخاملة بلا مذاق، ووفق كلماته الحافلة بالبساطة والصدق: "أنا طاقة يا سيدي.. طاقة.. أريد أن أقف وسط الملعب وأصيح بملء فمي".

الحق في الصياح مشروع، والطاقة التي تسكنه تحتاج إلى نشاط تنفيسي، والكارثة الحقيقية في تحول كرة القدم إلى أداة وحيدة للإشباع عند قطاع عريض من الذين يملكون الطاقة والحماس. 

تزامنًا مع لقاء الأهلي وبايرن.. كيف تناولت أعمال نجيب محفوظ كرة القدم؟

تابع مواقعنا