السبت 20 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

روب أمي بالكرانيش

الأحد 21/مارس/2021 - 09:46 م

"غيري هدومك.. البسي القميص ده والروب عليه.. واستني هاندهلك بمجرد وصول الدكتور علشان ندخل أوضة الأشعة"..
أعطتني التعلميات ووضعت ما بيدها ومضت.. أغلقت باب الحجرة الموحشة.. مهما كان فخامة التزيين تظل حجرة المستشفى موحشة مرعبة.. طابقة على الصدر.. لا تتسع لروحي المضطربة خوفا.

"روب".. ما أحلى روب والدتي.. ذكريات قفزت من ذاكرتي في محاولة للطمأنة.. للتلاهي.. وللتقليل من توتر الموقف.. وهل هناك ما يمكن أن يسكن التوتر غير هذه الذكريات القريبة البعيدة.. ذكريات الطفولة؟

كانت أمي ترتدي دائما فوق قميص البيت الفضفاض روبا يشع جمالا.. ولكل جلباب أو قميص بيت، روبُه الخاص، تتناسب ألوانهما وتفصيلتهما وتتناغم.. قماش ناعم أكمام واسعة ودانتيل بالوان زاهية.. دائمًا هي التي تخيطها وتفصلها بيديها .. وكان لي نصيب أن يكون لي روب او اثنان يشبهان أروابها ...كنا كما توأم عندما نرتديهما معا.. أزى بما أرتديه من عمل يديها ويشبه ما ترتديه.

البترون والمازورة وبكرة الخيط، إبر الكوريشيه الطويلة والقصيرة، بكرة الخيط الصوف التي فكت تشابكاتها عبر الالتفاف حول معصمي الصغير.. ماكينة الخياطة الياباني التي مازلت متواجدة في المنزل القديم كاثر قيم وارث ثمين، كانت اشياء منتشرة في كل البيوت تستثمر بهم معظم امهات هذا الجيل وقت فراغهن الذي كان دائما موجودا رغم الحمل الثقيل من تربية الاولاد، "نحن ثلاثة بنات وولدين".

من أين هذه البركة في الوقت؟!

تذهب والدتي إلى المدرسة بعد أن توصلني إلى الحضانة، مدرسة؟! علمت بعد أن دفعني فضول الطفولة لتكرار الطلب كل صباح "آجي معاكي آجي معاكي" أنها مدرسة لتعليم التفصيل والخياطة ورسم الباترون ومهارات التريكو وغيرها من المهارت التي أشبعت منزلنا وكسته من الخيرات.. مفرش السفرة التريكو وغطاء السرير وجلباب والداتي الحرير وبيجامة والدي الكستور وفستاني الدانتيل بالجبير المنفوش وكسوة الطقم المدهب والانتريه ذو المساند الزان والمطعم بقطع الأرابيسك.. مناديلي القماش المطرزة بورد على الأجناب.

المدارس المهنية كان ما زال لها وجود في هذا التوقيت "الثمانينيات" بكثرة، وبدأت تختفي في نهاية التسعينيات.. وكانت تنتشر مدارس لتعليم الخياطة والتفصيل وقص الباترون متنوعة، مثل مدرسة مدام "فيرا" المؤسسة في الخمسينيات، بمستويات دراسة تمتد إلى سبعة أشهر.. –بالبحث علمت أن آخر فرع لمدارس السيدة الأرمينية كان لا يزال يستقبل طلبات تقديم لكورساته بنفس المنهج الذي وضعته مدام "فيرا" حتى العام الماضي، وهو فرع الإسكندرية حيث إن مدرسة "فيرا" كان لها خمسة فروع أربعة بالقاهرة وواحد بالإسكندرية، هو الأخير الذي أغلق لبيعه.

وحتى غلق آخر فروعها احتفظت أكاديمية التفصيل تلك بمنهجها وأدواتها وتصاميمها في الدراسة لأكثر من نصف قرن.

"الدكتور وصل".. يستوقف الذكريات صوت مزعج يعلن وصول دكتور الأشعة.. ويكمل.. "اتفضلي".

أسكن بداخل جهاز بارد القلب، لمدة تقترب من النصف ساعة أشعر بضمة القبر.. "ماتتحركيش" كان التنبيه بنفس نبرة الصوت المزعجة يوجه لي من الممرضة.

في ماذا أفكر؟ ابنتي.. أم نتيجة الفحص الذي لم ينته بعد.. وظيفتي المهددة بسبب أوضاع اقتصادية واجتماعية شرسة.. السايس الذي رفضت أن أعطيه مفتاح سيارتي وماذا يمكن أن يكون انتقامه.. كاوتش هاوِ.. أم خدش بالباب؟
أم أفكر في سعر الجبنة الريكفورد، أحبها ما بيدي حيلة وسعر الربع كيلو الآن يشعرني بالعجز.. كذلك سعر البلوفر موضة العام الماضي ولكن سعره يؤمن زيادات العام المقبل.

لا.. روب ماما هو الذي قفز إلى ذاكرتي مجددًا.. أتذكرها وهي ترسم الباترون.. تختار تصميمه من اسكتش رسم كبير لديها.. هي التي رسمت جميع صفحاته بأشكال متنوعه للأرواب والجيب والبلوزات والبيجامات.

"كم أمي مبهرة".

الباترون ورق شفاف.. مازورة ومقص كبير.. إبر خيط وقلم أو طبشور.. العملية كلها بها بهجة، أمي في فمها بعض الدبابيس الصغيره تثبث بها ما تريد تثبيته.. والمازورة حول رقبتها تمتد ليدها.. الحسابات دقيقة والمقص تمسكه يد ثابتة لا ترتجف.
الباترون جاهز.. القماش أيضا جاهز.. عايزة الديل بكرانيش ولا لا؟

تسألني.. أجاوب بلا تردد.. كرانيش طبعا.

لماذا تحول هذا الذوق الرفيع لهذا الوضع الرديء.. أمي التي كانت تتمتع بذوق رفيع المستوي ويد صنايعي خياط محترف أحسن من مصممي أزياء "لوندن ولا باريس" بتعبير سيد درويش.. أصبحت ترتدي هذه العبايات المصنوعه من القطيفة بالشتاء "البروش" أو جلباب عادية من القطن بالصيف.. مستوردة من بلاد الواق واق، تخلو من اي ذوق يذكر.

لماذا أصبحت الجلبية القطيفة الرداء الأكثر شيوعا لأمهاتنا داخل المنزل منذ منتصف التسعينات، واستسهل اختيارها كهدية عيد الام المقرره في كل عام؟!

أين الروب وقميص البيت الفضفاض المزركش بكورنيش داير ما يدور.. والجيبة ديل السمكة والبلوزة ذات الأكمام الفضاضة والكاب الشتوي والشال الصوف يا أمي.. أين كل البترونات؟

لماذا توقف المقص ودوران ماكينه الخياطة.. الجلبيه القطيفة والعباءات السمراء.. الجاهز الخالي من الابداع اصبح الحل الاوفر ام الاسهل..أم المفروض بعد ان اصبحتي عورة.

توقف استخدام ماكينة الخياطة وماكينة الكحك وإبر التريكو وسبرتاية القهوة..من كل البيوت، كما اختفت من بيتنا اسكتشات الرسم وورق الباترون وكور الخيط الصوف.. الانفتاح.. الانفتاح اغلق باب المتعة.

لكن .. لماذا لا أبدو في مثل بهاء وأناقة والدتي في هذا الزمن.. لماذا رغم كل هذه الحداثة، كل هذه الأزياء ..الأفكار.. كل هذا الاستيراد.. لا أرى هذا البهاء؟

أريد أن تراني ابنتي بهذا الرونق ..بهذه الأناقة .. بهذه الهالة التي كانت تحيط بروب أمي ذو الياقة العريضة والكرانيش والاكمام الواسعة والرباط الداخلي الصغير والآخر الخارجي المحيط بالوسط كاملا.

أناقة الهدوء بمذاق فنجان القهوة المصنوع على مهل فوق سبرتاية أثناء حديث يجمع الجارات، لماذا أشعر أني في سباق طول الوقت؟ لا تراني ابنتي في لحظة بهذا الهدوء؟! .

لم ترني ابنتي بهذا الروب الأنيق مع جميع مشتملاته من ربطة شعر تثبت التسريحة اللائقة وطلاء الأظافر بلونه الناعم.. والبال الرائق بطعم أغنية فايزة "آخد حبيبي يانا ياما آخد حبيبي يا بلاش..زارع في قلبي وردة والنبي ياما ماتقطفهاش" تنشدها والدتي مع الراديو في الصباح.

الفحص انتهي .. اخلعي الروب وارتدي ملابسك ونتيجة الفحص بعد يومين .. أفاقني الصوت ذو النبرة العالية مرة أخرى.

تابع مواقعنا