الخميس 18 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

يوسف شاهين.. المتمرد الذي جعل من السينما كتابًا للنبوءات

الخميس 29/يوليو/2021 - 12:30 ص

المشهد الأول: 

عقارب الساعة تشير إلى الثامنة ونصف مساء في صيف عام 2004، وقت العرض الخاص لفيلمه "إسكندرية نيويورك".. هذه كانت المرة الأولى التي أرى فيها المخرج العالمي يوسف شاهين، شاهدته يطرد مراسلي القنوات الفضائية كانوا 5 فقط وقتها وهو يصيح فيهم: كيف تسألونني عن فيلم لم تشاهدوه التسجيل بعد الفيلم.

لم أصدق وقتها أنني قريب منه إلى هذا الحد؛ ما دفعني لمحاولة الدخول إلى غرفته التي كان بها بسينما فاميلي بالمعادي ورغم رفض مرافقيه فتح الباب إلا أني أصررت على الدخول وهو ما كان وطلبت منه حوارا صحفيا وأعطاني موعدا اليوم التالي في العاشرة صباحا بمكتبه الشهير في 35 شارع شامبليون.

ولم أذهب لاعتقادي أنه يعتذر بأدب، فنانين "ولاد إمبارح" كما يقال بالعامية لا يستيقظون قبل الخامسة عصرا فما ظنك بالعالمي يوسف شاهين.

من فيلم اسكندرية نيويورك

المشهد الثاني:

افتتاح أول دورات بانوراما الفيلم الأوروبي، شاهين يدخل لمكتب مدير السينما حيث كنت أقف متحدثا مع ابنة شقيقته المخرجة والمنتجة والموزعة ماريان خوري والمنتج والموزع جابي خوري، وكان موجودا المخرج خالد يوسف والفنانة منة شلبي.

لأفاجئ بشاهين يتقدم نحوي قائلًا: ألم يكن هناك موعد لإجراء حوار في المكتب منذ عدة أشهر! ضحكت في خجل ورددت أنني اعتقدت أنه يعتذر بذوق؛ فضحك قائلا: "أنتوا جيل حمرة، أديك ضيعت فرصة حوار معي على نفسك".

المشهد الثالث:

عرض عالمي لفيلم earth planet وشاهين يتوسط الجلوس بيني وبين المنتجة والموزعة ماريان خوري وعندما فوجئت بأنه هو ونظرت إليه وهممت بالحديث إليه نظر ليّ وابتسم وأشار للشاشة مطالبًا بالصمت ومشاهدة الفيلم.

 

المشهد الرابع:

كانت مفاجأة لي أن تخبرني المخرجة والمنتجة ماريان خوري أن شقيقها المنتج والموزع جابي خوري قد اختارني مستشارا إعلاميا للحملة الصحفية لفيلم "هي فوضى" ليوسف شاهين في فترة عمل استمرت 4 أشهر على واحدة من أنجح أفلام شاهين تجاريا على الإطلاق تعلمت فيها الكثير من مدرسة أفلام مصر العالمية التي أسسها شاهين وظللت بها حتى عام 2016.

افيش فيلم هي فوضى

المشهد الرابع:

مشهد المرض الأخير والوفاة ويوم جنازته غير التقليدي وتلقي العزاء باستوديو النحاس.

هذه المشاهد شكلت علاقتي بالمخرج الذي عشقت أعماله وتربيت عليها ولم أتخيل يوما من الأيام أن أكون مستشارا إعلاميا لآخر أفلامه أو أن أرتبط بقلعته الشهيرة في 35 شارع شامبليون كل هذه الفترة من عمري.

كنت أراه دائما من خلال وصف محدد له لا أمل من تكراره وكما وصفته في مقالات سابقة فهو يمتلك نظرة حادة لعينين ثاقبتين تختفيان وراء نظارة طبية سوداء سميكة تخفي خجلا شديدا وجرأة أشد.

لسان متلعثم يتحدث بسرعة شديدة تنتهي بسباب أو كلمة إسكندرانية شهيرة، مع حسنة عملاقة تختفي وراء أنفه هذه هي أبرز ملامح شاهين الذي ضل طريقه للتمثيل فأصبح مخرجا وهو الفنان الأكثر جموحا وتمردا في تاريخ السينما العربية، إنه عرابها وناظر مدرستها وطفلها المشاغب وأستاذها الراحل يوسف شاهين.

يتحدث تلميذه خالد يوسف دائما عن وصيته له التي تتلخص في التالي “فلتخرج جنازتي من مسجد عمر مكرم وليصدح فيها صوت محمد رفعت”.. إنها وصية تؤكد وتظهر كيف كان الرجل عاشقا لمصر وطنه ومقوماتها الثقافية جميعها، فهو المسيحي المولود لعائلة مسيحية ترتبط وفاته بهذه الوصية التي تعكس روح مصر الحقيقية.

كل يوم ومع دقات التاسعة صباحا اعتاد سكان شارع شامبليون على نزول يوسف شاهين من سيارته أمام مكتبه القاطن في 35 شارع شامبليون، ليبدأ عمله في شركته التي أسماها اسما تحول لعلامة ككل ما يرتبط بهذا الرجل "أفلام مصر العالمية".

سأحاول في السطور التالية رسم صورة مرتبطة بالإسكندراني يوسف شاهين ابن البلد الذي عشق جمال عبد الناصر وأم كلثوم والذي حمل على كتفيه عبء السينما المصرية ومشاركاتها الدولية على مدة 58 عاما حتى رحيله.

الحقيقة والميلاد:

كل منا تدل عليه حقائق مرتبطة بيوم ميلاده، ويوسف شاهين مولود باسم "يوسف جبرائيل شاهين"، مسيحي كاثوليكي، لأسرة من الطبقة الوسطى، في 25 يناير 1926 في مدينة الإسكندرية لأب لبناني كاثوليكي من شرق لبنان في مدينة زحلة وأم من أصول يونانية هاجرت أسرتها إلى مصر في القرن التاسع عشر، وكمعظم الأسر التي عاشت في الإسكندرية في تلك الفترة فقد كانت هناك عدة لغات يتم التحدث بها في بيت يوسف شاهين. 

وعلى الرغم من انتمائه للطبقة المتوسطة فإن أسرته كافحت لتعليمه، وكانت دراسته بمدارس خاصة منها كلية فيكتوريا التي حصل منها على الشهادة الثانوية، وزامله فيها ملك الأردن الراحل الملك حسين والنجم العالمي عمر الشريف.

بعد إتمام دراسته في جامعة الإسكندرية، انتقل إلى الولايات المتحدة وأمضى سنتين في معهد پاسادينا المسرحي (پاسادينا پلاي هاوس - Pasadena Play House) يدرس فنون المسرح.

"بابا أمين" ومرحلة إثبات الذات في السينما المصرية

عاد شاهين من أمريكا لتكون ضربة البداية ومرحلة فيها سينما طازجة غير معتادة لأفلام تبدو تقليدية لكنها غير ذلك على الإطلاق لتبدأ رحلته في التمرد على السينما المصرية عام 1950 ولعب بطولته فاتن حمامة وحسين رياض وكمال الشناوي وماري منيب وفريد شوقي وهند رستم وكان الفيلم جديدا في تكنيكه وقتها واتبعه بعد عام واحد بفيلمه "ابن النيل" بطولة شكري سرحان وفاتن حمامة ويحيى شاهين وهو أول مشاركاته في مسابقة مهرجان كان السينمائي الرسمية.

ضمت هذه المرحلة عددا كبيرا من الأفلام مثل "المهرج الكبير" مع يوسف وهبي و"سيدة القطار" مع ليلى مراد ويحيى شاهين و"أنت حبيبي" لشادية وفريد الأطرش وجميلة مع ماجدة ورائعته "باب الحديد" عام 1958 وخسر جائزة التمثيل الأولى في مهرجان برلين وقتها لأنه لم يكن يملك نقودا يسافر بها ليعتقد أعضاء اللجنة أنه أعرج بالفعل. و"صراع في الوادي"، و"صراع في المينا" من بطولة عمر الشريف وفاتن حمامة، وانتهت هذه المرحلة عام 1961 وفيلمه "نداء العشاق" وقدم فيها 16 فيلما.

يوسف شاهين

الناصر صلاح الدين.. ملحمة تاريخية في إطار سينمائي:

فتحت تجربة إخراج يوسف شاهين لفيلم "الناصر صلاح الدين" بناء على ترشيح من عز الدين ذو الفقار عام 1963 الباب على مصراعيه نحو تكوين عالم واضح لشاهين؛ فالفيلم الذي اشتمل على عدد من الجمل والمشاهد التي تحولت لكلاسيكيات في تاريخ السينما المصرية مثل مشهد محاكمة نادية لطفي – لويز- أو مشهد ليلة عيد الميلاد أو مقولة "ولكنكم تحرقون أغصان الزيتون" على لسان أحمد مظهر بطل الفيلم الذي لعب دور الناصر صلاح الدين الذي شبهه كثيرون بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر.

وتنتهي هذه المرحلة عام 1964 ويهاجر شاهين ليعيش في لبنان ويقدم فيلم "بياع الخواتم" مع فيروز.

"الأرض" مرحلة اكتمال الأسلوب والكلاسيكيات الخالدة:

عام 1968 وبعد عودته من منفاه الاختياري بلبنان يقدم شاهين واحدا من أجمل أفلامه عن رواية لعبد الرحمن الشرقاوي وبطولة عزت العلايلي ومحمود المليجي ونجوى إبراهيم وعبد الرحمن الخميسي وحمدي أحمد وعلي الشريف وصلاح السعدني وكان الفيلم الذي تحول لكلاسيكية من كلاسيكيات السينما المصرية.

وبعدها بعام يقدم شاهين واحدة من أقوى الأعمال الدرامية النفسية في تاريخ السينما المصرية وفيلم "الاختيار" مع عزت العلايلي ومحمود المليجي وسعاد حسني وتبدأ مرحلة جديدة، هي مرحلة شاهين مجنون السينمائي المغرد خارج السرب وفي منطقة خاصة به لا ينافسه فيها أحد، ومنحه العمل أولى جوائزه عام 1970 من مهرجان قرطاج السينمائي الدولي والتانيت الذهبي.

"العصفور" المنع يطارد شاهين وتعطيل العرض عامين

في عام 1974 يعرض أخيرا فيلم "العصفور" بعد عامين كاملين من منعه نتيجة لتناوله فساد القطاع العام والاتحاد الاشتراكي وحمل العمل نبوءة مكتملة الأركان في أغنيته "رايحين شايلين في إيدنا سلاح.. راجعين رافعين رايات النصر"، وهي الأغنية التي تنبأت بانتصار المصريين في حرب أكتوبر.

"عودة الابن الضال" 

في مشهد مؤثر من هذا الفيلم يحمل محمود المليجي الأحفاد في سيارة ويطلب منهم الهرب بعيدا عن جيل الآباء الملوث.

الفيلم تم عرضه عام 1976 واحتفى به مؤخرا مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي بمناسبة مرور 40 عاما على إنتاجه ولعب بطولته كل من ماجدة الرومي وهشام سليم وهدى سلطان ورجاء حسين وسهير المرشدي وشكري سرحان وعلي الشريف ومحمود المليجي والجزائري سيد علي كويرات، وينهي عودة الابن الضال مرحلة لتبدأ مرحلة السيرة الذاتية في سينما شاهين.

عودة الابن الضال

"إسكندرية ليه" أخيرا جائزة دولية والدب الفضي من برلين

حمل الفيلم الذي يعده البعض استثنائيا في تاريخ السينما المصرية والعربية الذي تم إنتاجه عام 1978 ميزة فريدة فهو أول فصول السيرة الذاتية لشاهين التي شملت أربعة أجزاء أنهاها عام 2004 بـ "إسكندرية نيويورك"، وشكل الفيلم أول تعاون له مع أبرز وأفضل من لعب بطولة أفلام شاهين محسن محيي الدين، والفيلم امتاز بجمعه تقريبا لكل أبطال السينما المصرية عبر عصورها فقد ظهر فيه يوسف وهبي ومحمود المليجي ودولت أبيض وأحمد زكي ونجلاء فتحي ووائل نور وأحمد سلامة وعبد الله محمود وأحمد محرز وعزت العلايلي وأحمد عبد الوارث ونعيمة الصغير وفريد شوقي ويحيى شاهين وعقيلة راتب وعبد العزيز مخيون وليلى فوزي وعبدالوارث عسر وزوزو الحكيم، ومنح الفيلم شاهين أولى جوائزه الكبرى وجائزة الدب الفضي من مهرجان برلين السينمائي الدولي.

وعام 1982 يقدم شاهين ثاني أجزاء سيرته الذاتية "حدوتة مصرية" التي بدأ فيها التعامل مع نور الشريف الذي يعد من أبرز من قدموا دور شاهين أو يحيى الاسم الذي اختاره شاهين لنفسه وكان هذا الفيلم الذي كتبه شاهين مع يوسف إدريس ويتناول تجربته مع أول عملية قلب يجريها شاهين وكيف يحاكم نفسه من خلالها.

وعام 1985 يقدم شاهين واحدة من روائعه السينمائية التي عرضها مهرجان كان في دورته الحالية مرمما تكريما للمخرج العربي الأبرز "وداعا بونابرت"، الذي شهد أقوى جملة وطنية في فيلم "مصر هتفضل غالية عليا" ولعب بطولته محسن محيي الدين ومحسنة توفيق وصلاح ذو الفقار وهدى سلطان وأحمد عبد العزيز والفرنسي ميشيل بيكولي وجميل راتب، والفيلم بداية الإنتاج المشترك مع فرنسا في حياة شاهين.

وعام 1986 يقدم شاهين رائعته الموسيقية "اليوم السادس" الذي لعب بطولته محسن محي الدين في آخر أفلامه مع أستاذه الراحل وبداية الخلاف لرغبة محسن في أن يصبح مخرجا وأن يبتعد عن عالم شاهين وليفقد شاهين واحدا من أجمل من جسدوا الدور الذي كان يكتبه شاهين لنفسه فهو مخرج ضل طريقه للتمثيل وكان بداخله ممثل بارع وجد ضالته في محسن.

وشاركته البطولة داليدا بعد اعتذار سعاد حسني وفاتن حمامة عن البطولة ليتحدا شاهين وغلف فيلمه بصوت محمد منير وأغانيه مثل أغنية "الطوفان" وظهر شاهين في الفيلم في دور صاحب دار عرض سينمائي.

وعام 1990 يقم شاهين ثالثة سكندرياته تحت عنوان "إسكندرية كمان وكمان" الذي لعب فيه عمرو عبد الجليل دور محسن محيي الدين بل اعتبره البعض قصة لفترة عمل شاهين ومحسن معا وشهد العمل مجموعة من الاستعراضات التاريخية الفرعونية أبرزها "الإله" الذي ظهر شاهين فيه بنفسه مع يسرا ونور الشريف وسجل الفيلم اعتصام الفنانين المصريين داخل نقابتهم.

"المهاجر" المنع للمرة الثانية والتهمة تجسيد الأنبياء

عام 1994 يقتبس شاهين ورفيق الصبان من قصة سيدنا يوسف ويقدمون لنا فيلما متميزا جدا في عالمه وديكوراته الفرعونية الضخمة وكان الفيلم أولى بطولات الوجه الجديد وقتها خالد النبوي ومعه محمود حميدة ويسرا وترفع قضية لمنعه من العرض ويكسبها شاهين ليحقق انتصارا آخر في حرة التعبير وليؤكد أن الأستاذ عليه تمهيد الطريق لمن يأتي بعده من الحواريين والتلاميذ.

"المصير" موعد مع الإنجاز العالمي:

عودة للمشاركة في المسابقة الرسمية لمهرجان كان بفيلمه المصير ولكنها مشاركة جلبت له جائزة الإنتاج وجائزة اليوبيل الذهبي بمناسبة مرور خمسين عاما على مهرجان كان ولتتوج مشاركات شاهين التي كانت قد بدأت منذ عام 1951 مع المهرجان.

وبدأت مرحلة تجريبية في حياة شاهين فمن طرحه لقضية العولمة في "الآخر" لفيلم "سكوت هنصور" وانتهاء بفيلمه الأخير الذي جلب له إيرادات غير مسبوقة في تاريخه السينمائي، حيث تجاوزت إيرادات فيلم "هي فوضى" المعروض عام 2007 أي قبل وفاته بعام، إيرادات تجاوزت 15 مليون جنيه، وشكل الفيلم نبؤة أخرى تحققت عندما ثار الشعب على دولة حاتم في 25 يناير وتعرض الفيلم وقتها لأزمة مع الرقابة والداخلية أدت لحذف مشاهد منه.

وكان شاهين وقت وفاته يستعد لتقديم "الشارع لمين" مع ناصر عبد الرحمن.

وقدم شاهين عبر تاريخه 6 أفلام بين قصيرة ووثائقية قصيرة بدأها بعيد الميرون عام 1967 وأنهاها بـ "لكل سينماه" عام 2007.

ومثل في "باب الحديد" و"حدوتة مصرية" و"فجر يوم جديد" و"اليوم السادس" و"إسكندرية كمان وكمان" وظهر في "خيانة مشروعة" مجاملة لتلميذه خالد يوسف.

شاهين استطاع أن يخلق لنفسه عالمًا خاصًا يصبح من الصعب أن تصدق أنه رحل أو أنه ليس موجودًا سيظل شاهين موجودًا وسنظل نتساءل مع كل حدث سياسي أو فني كيف كان شاهين سيصوره؟

تابع مواقعنا