الجمعة 03 مايو 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

الطريق الصعب!

الخميس 19/أغسطس/2021 - 05:37 م

من السهل أن تُكتَب الوثائق والبروتكولات بين المؤسسات والجهات التي تتفق في الانتماء الديني واللغوي والثقافي، وكذا تلك التي تعمل في مجال واحد كالتعليم أو الصناعة أو الزراعة، وتلك المجالات التي بينها ارتباط في بعض جوانب عملها، كالتعليمية والتكنولوجية، لكن حين تكتب بين المختلِفِينَ في الدين والثقافة واللغة؛ فإن الأمر يحتاج إلى وقفات وليست وقفة واحدة، ولقد تابعت في الأسابيع الماضية الكثير من الإشادات المستحقَّة بكتاب: «الإمام والبابا والطَّريق الصَّعب: شهادةٌ على ميلادِ وثيقة الأخوَّة الإنسانيَّة» الذي كتبه الأخ والصديق المستشار محمد عبدالسلام، سجل فيه شهادته على الخطوات التي قطعها فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وقداسة البابا فرنسيس الثاني بابا الفاتيكان، حتى إنجاز «وثيقة الإخوة الإنسانية» حيث بدأت تلك الخطوات بعد قطيعة بين الأزهر والفاتيكان وتجميدٍ للحوار بينهما بعد تصريحات مثيرة للبابا بندكت السادس عشر، اعترض عليها الأزهر، وقرر الإمام الأكبر تجميد الحوار بين الأزهر والفاتيكان اعتراضًا عليها.
وبعد مجيء البابا فرنسيس الثاني وتغير لهجة الفاتيكان نحو قضايا العرب والمسلمين، وتحولها إلى تصريحات إيجابية معتدلة، تغير الموقف وعاد الحوار بين الأزهر والفاتيكان، ليس هذا فقط؛ بل تطور سريعًا إلى زيارات متبادلة بين الإمام الأكبر الذي زار الفاتيكان أكثر من مرة، وبين البابا الذي زار مصر ومشيخة الأزهر، وتقاربت وجهات النظر، بل ربما تطابقت تجاه بعض القضايا المتداولة على الساحة، وهو ما عبّرت عنه كلمتا الإمام الأكبر والبابا في مؤتمر الأزهر للسلام، الذي شهد العناق الحار بين الرجلين الذي تابعه العالم، وكلمات القيادتين في الفاتيكان والأزهر حيث تبين للرجلين أنه بالإمكان السير في هذا الطريق إلى أكثر من مجرد اللقاءات، وأنه يمكن الانتقال إلى العمل المشترك لصالح البشرية وبخاصة العالمين الإسلامي والمسيحي، فكانت الوثيقة التاريخية التي وقعت على أرض الإمارات العربية المتحدة، والتي عرفت بوثيقة الإخوة الإنسانية، لم يكن الطريق إلى الوثيقة  سهلًا كما يظن كثير من الناس، فهي ليست وثيقة للاستهلاك الإعلامي وإنما وثيقة تؤسس لعمل مشترك في ضوء المشتركات الإنسانية التي لا تختلف باختلاف الأديان ولا حتى الثقافات الوضعية المجردة عن الميل والهوى، فجميع الرسالات جاءت بالحق والعدل والإنصاف والرحمة والإحسان ومكارم الأخلاق، وتحريم الفواحش والجرائم والقهر والظلم.

ويمكن لاتباع الديانات العمل معًا في ضوء هذه المشتركات مع بقاء كل أتباع دين أو ثقافة على ما يعتقدونه، فالوثيقة لم تحول الفاتيكان إلى أزهر ولن تحول الأزهر إلى فاتيكان، ولن تدمج بينهما، وإنما هي عقد اتفاق للعمل المشترك من منطلق ما تتفق عليه الديانتان بل الأديان السماويّة كلها من البِرِّ والعدل وإنصاف المظلوم وتصحيح المفاهيم التي يُدلسها البعض ويلصقونها بالديانات، وإظهار تعاليم الديانتين الصحيحة، وقطع الطريق على المستغلين لبعض نصوص يحرفون معانيها لتبرير مسالكهم الشاذة، ليحيا الناس في كنف الأديان بسلام وأمن ورخاء، وهذه ليست بدعة ابتدعها الأزهر والفاتيكان، بل كلنا كمسلمين نعلم كيف وضح لنا كتاب الله حدود العلاقة مع المخالفين في الدين، وهي علاقة تقوم على السلم والتعايش ما دام لا يتربص طرف بالآخر،{لكم دينكم ولي دين} ونعلم آيات كثيرة في كتاب الله تؤسس لعلاقات السلم والوفاء بالعهود والمواثيق في عدة سور، ونعلم كيف تعامل رسولنا الأكرم مع يهود المدينة، وكيف أسست وثيقة المدينة المنورة للعمل المشترك بين المسلمين واليهود كأمة واحدة، وكيف استعان رسولنا بعبد الله بن أريقط اليهودي كدليل لرحلته وهجرته إلى المدينة المنورة مستأمنًا له على حياته هو ورفيقه الصديق، ونعلم أن رسولنا اشترى طعامًا من يهودي لأهله بالأجل ورهن درعه عند اليهودي وبقيت مرهونة حتى وفاته فافتكها الصحابة بعد موت رسولنا على الراجح من قولي العلماء. 

وهذا الفهم الصحيح لديننا وأحكامه البعيد عن العصبية الدينية أزال صعوبات كثيرة من طريق الوثيقة، ومن واقع متابعتي لخطوات الوثيقة ومرافقة الإمام الأكبر في إحدى زياراته للفاتيكان، والمشاركة في استقبال البابا حين زار المشيخة، ومشاركتي في فعاليات متعددة شارك فيها البابا في الفاتيكان وأوفدني فضيلة الإمام لحضورها، أستطيع القول بأن الوثيقة نتاج قناعة كاملة من الأزهر والفاتيكان بإمكانية العمل الإنساني المشترك، وأنها ليست حِبرًا على ورق بل هي شاهد على عمل بدأ بالفعل على الأرض قبلها، ومن خلال معاصرتي لولادة الوثيقة أعلم أن جنديًّا معلومًا بذل جهودًا مضنية ومكوكية بين الأزهر والفاتيكان والإمارات حتى ولدت هذه الوثيقة، وهو المستشار الشاب محمد عبدالسلام، الذي كتب أول كتاب له خصصه للحديث عن الطريق الصعب الذي قطعه الإمام والباب إلى هذه الوثيقة، التي كلف بأمانتها العامة وهو أحق بها وأجدر بالقيام بأعبائها الصعبة، وقد نجح منذ كلف بأمانتها العامة في نشر ثقافة الوثيقة وإيصالها إلى المحافل الدوليّة وفي مقدمتها الأمم المتحدة. 

ولم أندهش من الإشادات الكثيرة التي خطها كتّاب كبار يشيدون فيها بكتاب «الإمام والبابا والطريق الصعب» الذي سجل فيه شهادته على خطوات مرت بها الوثيقة حتى أصبحت واقعًا بين الناس، فقد عرفت المستشار من قبل كاتبًا متميزًا أعطاه الله ملكة التعبير الموجز في كلمات قليلة عن موضوعات تستغرق صفحات إنْ خطها كثير من الناس، إنما الجديد بالنسبة لي هو ظهور امتلاك القدرة على كتابة كتاب كامل بتلك القدرة التي عرفتها عنه في الكتابات القصيرة، فقد جاء الكتاب وكأنه سلال مترابطة بعبارات رشيقة فصيحة معبرة عن المعاني التي أراد أن يوصلها لقارئ الكتاب، ولعل هذه الملكة ترسخت بعدة أمور منها: أنه أزهري متفوق من نعومة أظافره حتى تخرجه في كلية الشريعة والقانون بطنطا، وأنه عمل بالنيابات العامة وقاضيًا بمجلس الدولة، وأنه شارك في صياغة آخر دستورين ممثلًا للأزهر الشريف، وأنه لازم لنصف عقد من الزمان كاتبًا يكتب كلمات النثر أقوى من الشعر المقفى، وهو فضيلة الإمام الأكبر، فلا أظن أن بين الناس في زماننا من يملك قدرته على نظم كلماته التي يكتبها بقلمه كلمة كلمة، فكأنك تسمع أو تقرأ للعقاد أو طه حسين وهما يتحدثان أو يكتبان عن أمور يعيشها الناس في زماننا، ولست في حاجة لبيان كيفية وقع خطابات الإمام التي يلقيها في المحافل على الناس، فهي كلمات بعيدة عن الإنشاء الذي يلومنا عليه حين نستخدمه في كتاباتنا، حيث تُعد كل كلمة يلقيها خطة إصلاح لخلل مجتمعي، ويصعب أن ترى كلمة في كلمات الإمام قد تكررت بلفظها، ويصعب جدًّا اختصار كلمة أعدها، فليس من عبارة أقل أهمية من أختها، وقد شَرَّف الإمام الكتاب بمقدمة تُعد وسامًا رفيع المستوى على صدر كاتبه، إضافة إلى وسام آخر حملته مقدمة البابا فرنسيس، الذي كرم المستشار بوسام سابق لم يحصل عليه عربي مسلم من قبل، وهذا التكريم الذي حصل عليه كاتب الكتاب لم يسبق إليه ولا أظن أن أحدًا بعده سيلحق به.

 

تابع مواقعنا