الجمعة 17 مايو 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

قوس الألم الأزرق.. قصة قصيرة لمرفت البربري

مرفت البربري
ثقافة
مرفت البربري
الإثنين 13/سبتمبر/2021 - 08:02 ص

أعطيتها آخر قرص دواء لهذه الليلة، وكان من ذاك النوع الذي يجبر الجسد على النوم وينأى به عن آلامه بحيث لا تصل إليه، وصفه لها الطبيب في الآونة الأخيرة، بعد أن عافها النوم وسلب السهاد جفونها الراحة، ونأت عنها بلاد الأحلام بعد المشارق عن مغاربها، وتدانت منها مدن الكوابيس المزعجة حتى سكن أهلوها أرض غرفتها، وصارت جدرانها تنضح بهم، وتسّاقط عليها أشباحهم من سقفها، وتنشق الأرض عنهم، فيتقاذفون من كل جانب حولها، فيشيعون الأوجاع والآلام في جنبات حجرتها وذرات جسدها الواهن الصابر، الذي أنهكته سنواتها السبعين وأمراضها التي فاق عددها سِنيّ عمرها، فقد أصبحت خارطة جسدها ملأى بخطوط الطول والعرض التي رسمتها آثار العمليات الجراحية على غشاء إهابها الذي رق وانكمشت فيه نضرة الشباب، ونقشت عليه وخزات الإبر صورة مفزعة لوحش الألم والمعاناة، ها هي وقد رقدت ساكنة مستسلمة لمكونات القرص، التي أخذت أوجاعها بعيدا، ونأت بها إلى ركنا قصيا في أحدى زوايا جسدها التي فقدت الإحساس، حتى تنعم ببعض النوم، لتعود أدراجها بعد يقظتها لتسكن أعضاءً مازالت تشعر من أجزاء جسدها، ويأخذ منها الوجع مأخذه مرة أخرى، وتدور الأوجاع بحواسها دورتها اليومية... 

رحت أسلم قياد جسدي المنهك للنوم على سرير ينتظرني هناك بالقرب من سريرها، ألقيت بكل أوجاعي التي لا تساوي نذر يسير من أوجاعها على مرفأه أنتظر سويعات راحتها وراحتي حتى تنقضي، وتعود سفينة الآلام لتسير في بحر أيامنا، لم أمل من مراعاتي لها... فمهما أعطيتها من أيام عمري فلن أوفيها بعض من سويعات عمرها التي قضتها، تبذل ثوانيها في مراعاتي أنا واخوتي...وأبي

كنت أسمع دائما أن أوجاع الجسد تعجل بالوقوع في غيابات النوم، ولكنني بالرغم من آلام جسدي لم أستطِع النوم، وكان خوفي يقف خلف ستائره المخملية، فتفزعني فكرة أن أستجيب لمراودته، أو أن أروح معه إلى جنة أحلامه الوارفة، فتوصد أبواب أذنيّ أمام نداءاتها إن هي أفاقت من نومها، أو يتعانق جفناي مرحبين بلقائهما على عتبات النوم فتفوتني لمحة إلى وجهها الذي أعشق خطوط الزمن المرتسمة على بشرته، فعليه قد نقشت التجاعيد مسارات الفرح، عندما كان يزورها فتبتسم، وأخاديد الحزن الذي أحرق وجنتيها بدمعاته القاسية، حتى علامات عبوسها عندما تغضب لأفعالنا صغارًا، وكوارثنا الكبيرة عندما كنا نحبو في سنوات شبابها حتى قطعنا مشوار حبونا وكبرنا وأقتطعنا من شبابها أياما أضفناها إلى أعمارنا فشب صغيرنا وقوي ضعيفنا واشتدت سواعد الابن وصارت الفتيات إناثا يافعات، وهي تتناقص فتنتها لتمنحهن الفتنة، ويتهاوى صمودها فيشتد عزم رجلها صغير الأمس، لم تكتفِ بما تمنحه الأم لأولادها من رعايتهم صغارًا ومؤازرتهم بحكمتها حين تعثرهم بمشكلات مراحل المراهقة والشباب، بل فاقت تضحياتها كل وصف... 

جلست في فراشي أراقب جسدها النحيل الذي ظهرت عظامه من خلف ثوبها ذي النقوش الرقيقة، فهي دوما تحب الرفق والرقة في كل شيء، حتى مرضها كانت تقابل آلامه بأنات رقيقة صابرة ونفس رضيّة، وقع الغطاء فكشف ساقيها، ما أوجع ما كشف عنه !!! 

نعم أرى هاتين الساقين كل يوم، ولكن كأني لم أرهما بهذه النظرة اليوم، الساق اليمنى متورمة نتيجة جلطة أصابتها قد زرعها الرقاد المستمر في عمق وريدها، ولم تفلح العقاقير في إذابتها، واليسرى التي فقدت فيها الحياة طراوتها جزءًًا جزءًا، حتى احتل الموت نصفها، فألبسها جوربا من سواد العطب.. قمت لأعيد ستر أحزاني الملقاة تحت قدميها، وكفكفت دموعي التي كادت تسقط لتقبل هاتين القدمين اللتين أنهكهما المسير في رحلة عمرها، كما أسقمهما الركض على آلات الرياضة والتخسيس عندما بلغت الستين من عمرها، هل ظننتم أنها كانت تركض بحثا عن شبابها المفقود بين ثنايا ترهلات جسدها السمين ؟ 

أو أنها كانت تركض خلف فتات صحة تتناثر في طريقها تحاول أن تلملم بعضه ليكون زادا لما بقي لها من سنوات عمرها المولي؟ 

أو كانت تحاول استرداد جاذبيتها بحرمان جسدها الممتليء من الطعام كي يعود أدراجه لرشاقة سالفة ويشتد عودها فيفعل فعل السحر، فتصير شابة جذابة كما كانت ؟

لا... هي الإجابة الوحيدة لكل هذه التساؤلات،، 

فهي في ذاك العمر ما كانت تعنيها رشاقة ولا كانت تغريها جاذبية وشبابها قدمته راضية مع جمالها وسحرها قربانا لدوام حياتنا نحن صغارها. 

و لكن كل ما قدمت من قرابين لم يكن كافيا لأن ترتشف عيناها حلاوة نضرة الشباب والصحة في أخي فضل الولد الوحيد الذي أنجبته هو وثلاث بنات، فقد ابتلي بداء الكُلى، وعانت أمي ضعفي معاناته وأكثر في كل مرة تزوره آلام المغص الكلوي، فكانت تحتضنه وتعتصر جسده النحيل كي تخبئه من الألم علّه عندما تمتزج رائحة اخي بعطرها، يضل الطريق إليه فيأتي إليها بمعاوله يكسر عظامها هي ولا يصيب فلذة كبدها خدش يؤلم كليته، ولكن هيهات ما كانت تظن أن يحدث، فقد كان عارفا حفيظا لرائحته ولم يخطئ السعي إليه، فهو عليم بمن قصَدهُ عارف بمسكنه بين خلايا كلية أخي الخربة، فاستقر فيها، واستضاف الآلام والأوجاع فباتت هي الأخرى من محتلي تلك الكلية المريضة. 

ومرضت الكلية الأخرى وبدأت مراحل الغسيل الكلوي القاتلة، فكان أخي يموت في كل مرة على جهاز الغسيل، ويحيا من جديد بعد خروجه مع استمرار الألم، وكانت أمي تموت في كل مرة مرات ومرات فذاقت الموت آلاف المرات في فترة مرض فضل 

وبعد مرات من الغسيل الكلوي بات لا يجدي نفعا مع تينك الكلية العصية على الشفاء، فزادت آلامه أضعافًا كثيرة وتقطعت كبد أمي وانفطر قلبها على ذلك الشاب الذي لم ينعم ببريق الشباب ولم يشتم نسمات العافية. 

فأصبح واجب إزالة ذلك البناء المنهدم واستبداله بكلية سليمة، ومن أين لنا بثمن كلية سليمة نبذله لمتبرع يهدي أخي مع كليته حياة دون ألم ؟

فينعم ببعض الراحة من بعد ما برّحته آلام المرض.

وأبي رحمه الله كان موظفًا بسيطًا بالكاد يكفي مرتبه البسيط مع بعض الجمعيات التي تنظمها أمي مع جاراتنا في تسيير أمور حياتنا، فطلبت أمي من الطبيب أن يأخذ كليتها ويذرعها في جسد أخي المريض لتمنحه الحياة مرة أخرى غير تلك التي أنمتها داخل رحمها، فخرج يحملها مخلوقا سويا، يحمل معه الفرحة لقلبها، الذي تهشم بفعل آلامه، حاولنا جميعا إقصائها عن فكرة التبرع وهي في هذه السن، قلت لها أنني من سيتبرع لأخي بكليته ووافقني زوجي الطيب على ذلك ولم يمنعني عكس ما فعل أزواج أخواتي الأخريات، الذين منعوهم من مجرد الفكرة، فعلى حد قولهم لن يستطيعوا الحياة مع زوجة تهدر صحتها وتبذلها فداءً لأخيها بدلا من أن تبذلها في رعاية أطفالها، فمنعوهن حتى من زيارتنا حتى لا يضعفن في غيابهم وتقوم إحداهن بالتبرع، وطلب والدي أن يتبرع هو بدلا منها فرفضت قائلة: 

لا لن يمنح الحياة لابني غيري فأنا أولى بصغيري.. ولن أتحمل أن يخدش جسد أحدكم مشرط جراح أو أن يصاب بمكروه جراء عملية جراحية مثل هذه، فلن تسكنون آلامي في جسد إبني، لتشعلوا فتيلها في أجسادكم. 

لم نصغِ لرغبتها، وأجرينا كل التحاليل الطبية ليناظر الطبيب فيما بيننا من هو الأقرب في بناء الأنسجة لجسد أخي، ويكون هو الأصلح للتبرع وأخذ كليته لاستبدالها بكلية أخي المريضة، وكانت المفاجأة أنها هي الأولى بصغيرها كما قالت، وأنسجتها هي الأقرب لأنسحته بحيث لا يرفض جسده بذرتها بعد زراعتها، ودون إرادتنا وبأمر الطبيب كان لا بد من تجهيزها لعملية الإستبدال، ولكن كان وزنها الزائد عائقا في سرعة إتمام العملية، وكان لا بد من إنقاص وزنها عشرين كجما، ولست بالمستطيعة أن أصف لكم كم كان ذلك الأمر بالعصيّ بل بالمستحيل على امرأة في هذا العمر أن تقوم بعمل حمية قاسية، كي تخسر هذا الوزن، فكانت تحرم نفسها من الطعام الذي يقيم أودها، وتؤدي من الرياضات ما لا يصلح لجسدها المريض بالسكري، فكانت تتوالى عليها الغيبوبة بسبب نقص السكر نتيجة قلة الطعام، والحرق الزائد الذي يصاحب رياضة الجري والمشي، وباقي الحركات الرياضية الصعبة التي كانت تستعين بي في تأديتها، فكنت أجلس تحت قدميها عندما كانت تستلقي على بطنها لعمل تمارين الضغط، فأمسك بهما لأعينهما على احتمال ثقل جسمها، وكنت أمسك برأسها إن هي مادت عندما كانت تحاول رفع جسدها لتضغط بطنها فتحرق بذلك بعضا من دهونها، مر على تلك الحمية والتمارين شهرين خسرت فيهما أمي أزيد من الوزن المفروض عليها خسارته ليكون عمل العملية بأمان تام على صحتها، وأجريت العملية وقام أخي وأمي بخير حال، وحمدنا الله رب العالمين على أن وهبنا إياهما مرة أخرى بعد أن كنا من الممكن أن نفقد أحدهما أو كلاهما، وعاشت أمي بصحة معتلة،، 

فقد أدى إستئصال الكلية التي وهبتها لأخي، لإرهاق الأخرى المتبقية بجسدها، وبخبث طوية الأمراض هاجموا جسدها المُسِن، فصارت تعاني مرض الضغط العالي بالإضافة إلى السكري والأملاح تحجرت في كليتها وبنت صخورا صماء لا تستمع لآلامها فترق لها فتذوب، كانت تقبل كل مرض حديث العهد بجسدها بالرضا والصبر على آلامه المبرحة، شاكرة لله أن أتم نعمته على أخي بموفور الصحة، مرت خمس سنوات فقدنا فيها أبي بعد أن صال في جسده النحيل المرض وجال، وكانت أمي تتمنى لو أن هناك عملية لنقل الأرواح كعمليات نقل الأعضاء، لكانت أجرتها عن طيب نفس، ووهبته من خلالها روحها سعيدة راضية، ولكن للقدر كلمة لا يستطيع أحد أن يثنيه عنها، ومات والدي وترك لها إرثًا هائلًا من آلام الفقد، ومسؤولية رعاية بنين وحفدة، وابن عاوده مرض الكلى الذي حاربته بكل ما أوتيت من ضعف، ولكن هذه المرة لم تستطِع أن تفديه، فقد كانت تلك المرة الثانية التي يقول فيها القدر كلمته فيموت فضل آخذا معه فرحتها والبقية الباقية من صحتها، ولكنه ترك من أثره ولد عاش معها يؤنس وحشتها هو وأمه..

بينما أنا شاردة سمعت صوت تململها وتأوهاتها الآتية من اللاوعي، ونداءها لفضل الآتي من قعر حجرات قلبها المريض، قمت من مكاني فربتت على قلبها ربما تمنحها لمستي بعض من السكينة، وبالفعل هدأت ولم تعاود النداء، كنت أسمع أن المريض الذي يعيِه المرض وتثقل أوجاعه كاهل محبيه، يتمنوا له الموت ملتمسين بدعواتهم راحتهم قبل راحته، ولكنني وأشهد الله على ما أقول لأتمنى وأدعو لها بالبقاء، ولو عاشت بتلك الحفنة من الأمراض، أراعيها وألا ينام جفني إلا وهي وادعة مطمئنة، لا يأتي جسدها آلام ولا تزورها أوجاع، إن كان سهري هذا هو الثمن لبقائها جواري، لا يزول سنا وجهها عن سماء عينيّ.

غشيتني سحابة النوم فغاص فيها جسدي بكل ما أصابه من تعب طيلة اليوم، فرأيتني أمشي وسط المقابر أبحث عن خياط ليخيط ثوبا لا أعرف صاحبه، وكان اسم ذلك الخياط حامد، وهو نفس اسم المُقبر الذي قام بدفن والدي، حتى وجدت ذلك الخياط يمسك إبرته ويقوم بخياطة الثوب، أفقت من نومي، على صوت أنّاتها تتزايد وكان مفعول القرص بدأ في التلاشي.

نظرت في الساعة فوجدت أن موعد حقنها بالمادة المذيبة لتجلط الدم في وريدها المريض، أعددت الحقنة وأتممت ملأها بالدواء، وكانت أمي قد استيقظت بوجه كالقمر في تمامه، لم تتأوه من أوجاعها إلا تلك الأنّات الخفيفة التي كانت تودع بها النوم، لتعود إلى أرض واقعنا، والغريب أنها سألتني عن ابن فضل باسمه هو الذي أسماه له أخي، وكانت في عادة إعتادتها في أيامها الأخيرة دائما تناديه باسم أبيه، وكأنها نسيت اسمه تماما، وكانت تعامله على أنه فضلا، أخبرتها أنه لازال نائما، فطلبت مني إيقاظه لأنها تريده، حاولت إثنائها عن ذلك لنترك الولد يرتاح قبل نزوله إلى مدرسته، ولكن عبثا كانت محاولاتي أمام إصرارها، وهددتني بعدم تناولها للدواء إلا بعد أن أوقظه، أيقظته بهدوء ليرى ما تريد منه جدته، وعندما استيقظ كأن كل من بالبيت نائمون بجواره وكأنهم واتتهم جميعا في ذات الوقت رنة تنبيه أيقظتهم ليمثلوا أمامها بكامل العدد.

وكان ذلك أبدا لا يحدث أن نجتمع كلنا معها كأننا في طابور عرض، وقد كان لكل منا ميعاد نتناوب فيه رعايتها، جلس بجوارها ابن أخي فأسرت له حديثا في أذنه، بكى بعده وأبكانا جميعا دون أن نعرف سر نجواهما، استسمحتها في أن تمنحني وريدها حتى أعطيها الحقنة، فسمحت، وعندما كشفت عن ذراعها وجدت آثار الوخزات السابقة وألوان قوس الألم الأزرق والأصفر والأحمر الذين كانوا يخضبون ذراعها قبل أن تنام وكأن لم يكن لهم وجود على ذراعها، وخزتها وأطلقت المادة الدوائية لتسري في وريدها، وكعادتها قبلت يمناها وحمدت الله، وابتسمت للجميع ابتسامة ملأت قلوبنا رضا بما أراد لها ربها، وأخبرنا ابن فضل عن سر همساتها التي ابكته عندما فهم تفسيرها، بأنها رأت أخي فضل يلبسها ثوب العافية وأنها لن تتألم بعد الآن.

 

تابع مواقعنا