الثلاثاء 30 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

محمد الدفراوي يكتب: قراءة في قصة هذيان على هذيان للكاتبة أميمة جادو

محمد الدفراوي
ثقافة
محمد الدفراوي
الثلاثاء 28/سبتمبر/2021 - 07:47 ص

في البداية ينبغي الإقرار بأنه ليس من السهل بأي حال كتابة القصة القصيرة، فهي من أصعب الفنون الأدبية، إذ يضطرُ الكاتب للعيش في حيز ضئيل لا يمكنه الخروج منه لأي سبب، وكل ما عليه هو النبش في أعمق الأعماق من أجل إظهار ما يريده، عدد قليل من المبدعين العالميين استهلوا إبداعاتهم بكتابة القصة القصيرة واستمرّوا حتى بلغوا المنتهي أمثال أنطوان تشيخوف، وإرنست هيمنجواي، بينما من فشل التجأ إلى فنون كالرواية، إذ بإمكانه أن يجد فيها متنفسًا ورحابة من حيث القول أو المدّ الزمني،  إذن علينا أن نعترف بما يكابده المبدع في كتابة القصة القصيرة، وقد يلتفت النقد لهذه المعاناة أو لا.

 د. أميمه جادو واحدة ممن توافرت لهم أدوات الأصالة في هذا المضمار وأخلصت له إذ الأغلب من إنتاجها في عالم القصة، فبلغتْ فيه منزلةً، على الرغم من أنّها خاضتْ الكتابة الروائية في عدد من الروايات الممتعة لكنها ظلتْ وفيةً للقصة، ونذرتْ نفسها له حتى برعتْ فيه، من القصص القصيرة كتبت 2008 مجموعتها الرجل الحرير والتي ضمّنتها رائعتها هَذَيان على هذيان لتنبئ عن استواء ونضوج فن القصة، لما انطوتْ عليه من غنىً في الدلالة وابتكار وتداخل أنساق، فخيبّتْ ما ظنّه النقاد من اعتبار فن القصة هواية وهامش إبداع إلى اعتباره معاناة شيّقة ومُجْهدةٌ للغاية، فعلت ذلك حين تخلّتْ بمهارة عن الإسهاب في التوصيفات، والعبارات الإنشائية، واختارتْ بيسر وسهولة الألفاظ ذات الإيحاء والجرس الأعمق تأثيرًا.

قصة هذيان على هذيان تتسعُ على صغرها لتغطي مساحة من الكرة الأرضية والناحية النفسية والجمالية في أقل عدد من الكلمات، بحيث لا يمتدّ بك الوقت لأكثر من نصف الساعةِ لكي تنهض محاكيًا عالمًا من الإبداع في اختزال وتركيز 

 1 - قراءة أولية

 بدتْ القاصة شديدة الوعي في إضفائها الطابع الإبداعي على السرد من دونِ أن تنزلق إلى شيء من الغموض وتضليل القارئ، ذلك من خلال إصرارها على نثر عبارات مفتاحية تعدُّ بمثابة إضاءات أمام القارئ، فضلا عن تحققّه من لذة القراءة كهدف رئيس من العملية الإبداعية، وهي إذ تفعل ذلك يستشفُّ المتأمل منه رغبةً السارد في الانعتاق من عالم مخنوق إلى عوالم أكثر رحابة واتساعًا، فالضباب في مطلع السرد ما هو إلا صورة عن حالة مشوشة كانت عليها قبل أن تلتقي برواية (هذيان على قبرها- لكاتبها محمد القصبي) لتنشأ سرديتها هي، حين تنفصل عن الرواية و(يسقط رأسي على الكتاب ) لتدخل حالة أشبه بما بين اليقظة والمنام ولتدخلنا بدورنا معها رحلة (هذيان ) مختلفة أشدّ غرابة وخيالًا، تبني على الرواية قصتها ب (اللا يقين) ذاته، ولتدفع القارئ دفعًا إلى استكمال ممارسة القراءة حتى الحرف الأخير!

، تتساءل هي ونحن أيضًا: هل هي روايتي أنا ؟ّ ! وتلتقط بمهارة متعة الاستغراق في النص لتقدّم النصح غير المباشر " شيء جميل أن تعيد اكتشاف ذاتك في أقلام الآخرين " كانت هذه العبارة كفيلة هدفًا من القراءة، فقراءة رواية (هذيان على قبرها) أعاد لها فرصة اكتشاف ما كانت عليه ونقلتها لعالم أرحب " ما ماتَ..هو ما كانت تعيش فيه، فالصحفي برائعته نقلها إلى عالم كانتْ تتوقُ إليه! "

 إذ انطوتْ روحها على الرغبة الجارفة في الانفلاتْ من واقعها المضبَّبِ. 

 2-دلالة العنوانِ: 

العتبة الأولى كما يقول النقاد لقراءة أي نص هي العنوان، فـهذيان دلالته تحيلك مباشرة إلى التحليل النفسي، حين يختلط بين الواقع والخيال، هذه آلية يلوذ بها المبدعون المتمرّسون بالقسط الوافر من الإبداع،حيث يسوقون الحقائق في ثوب المزاح أو الأحلام أو الخيال أو الأساطير أو على ألسنة المخلوقات، وهو يعنونَ ذلك باحتراف كعنصر تشويق أو هروب من مواجهة محتملة، كما يتضح ذلك من حجم (الهالات) في النص هل بضعة مرّات كآلية غير مباشرة لانتقاء القصد من الحكاية فضلا عن (اللاءات) التي تعزّز الأمر بذلك (لا أدري، لا أعرف ،لا أعلم، لا تخونني، لا أدري ما اسمه؟) وهكذا تجعلني القاصة أسير قراءات مختلفة هذه تحسب للنص الأدبي العميق المفتوح الدلالة والتفسير. 

3- أنسنةُ الأشياء:

 نادرًا ما ينجح القاصُّ في توظيف عنصر الغرائبية في نصه المكثّف كالقصة القصيرة،إذ يبدو ببساطة شديدة جسمٌ غريب وكيان مفتعل، ليتفاجأ به القارئ منبوذًا،مما قد يؤدي إلى تفكيك بنية النص على عكس ما استطاعته القاصّة في (هذيان) فقد أدخلتنا عالم الأحلام وعالم الأقزام (عقلُ الأصابع) لنشعرَ بالاندهاش تمامًا كما أرادت هي، ولتأكدّ لنا دون فجاجة ٍ "امتلاكها للعالم " وهذا طبيعي لا تناقض فيه، إذ مما يدلُّ على قدر عالٍ من الشفافية هو الانتقال من عالم الحضور إلى عالم أرحب منه "عالم الأحلام"، من الغضب إلى الرضا، نتيجة لذلك تتحوّل الأشياء الصّمّاء لكائنات حيّة تنبض بالحياة ومفعمة بالشعور والإحساس والابتهاج، من الأنسنة (كلامُ الموتى) لكنّها تعاود الشكّ في الأمر فتقول: " كنتُ يقينًا أعلم أني غرقتُ ولكنّ الموتى لا يتكلمون وربما لو تكلموا لا يسمعهم أحد!"

ربما كانَ لتوظيف (كلام الموتي ) و(عالم الأقزام ) و( الغرق والإنقاذ ) رموز في النهج النفسي للقصة، كما لم يغبْ لدينا عن الحضور في وسط هذه الزخم من الرموز والدلالات، إذ يتجلى واضحًا في النطق بالشهادتين، واستدعاء مدفع رمضان وبُساط سجّادة الصلاةِ و(التقمني فم تمساح كبير، ها آنذا مثل يونس في بطن الحوت)

4 -جمالية اللغة

 

 فعلى الرغم من أن د. أميمه ذات تكوين علمي يفرض اللغة العلمية علي بنية القصة ببعدها عن الإيحاء والمجاز لكنها لم تفعل، وفضلت أن ترتدي ثوب الأدب حتى النهاية، فحمّلت لغة القصة بشحنات إيحائية ومجازية بكل اقتدار، فلا يمكن للقارئ أن يمرّ عليها دون أن يتجاوز حد الظاهر منها ليسبر أغوارها وإلا تعذّر عليه إدراك المعنى والغاية، إذ لابدّ من النظر فيما وراء الكلمات والجمل وعلامات الترقيم كالاستفهام والتعجب...فقد استخدمت كل ذلك دون تعقيد، فيصحُّ أن يطلق على أسلوبها عامّة بـالسهل الممتنع وليس هذا بالأمر الهيّن، يعرف ذلك المشتغلون بشئون الكتابة وتقريب المعاني. فمثلًا قولها: " ما هذه الأوراق هل هي معدةُ التمساح أم كبده أم رئته ؟!" بالإضافة للعديد من التشبيهات والإنزياحات باستخدام أداة التشبيه (مثل) بوضوح: " مثل قدرات سوبر مان.. مثل يونس في بطن الحوت.. مثل مصاصي الدماء " كنوعٍ من رغبة القاصة غير معلنة على أن لا يضلَّ القارئ في دروب التأويلات، ويغرق بدوره في نهم التفسيرات.

في نهاية المطاف النص القصصي هذيان على هذيان يرصد الممكن وغير الممكن، المعقول واللامعقول، الحقيقة والخيال، الضباب والصفو الذي لا يعكّره شيء، والصخب والفرح، وامتلاك المقدرة على استحضار القارئ في قلب النص وسجنه فيه حتى النهاية، في لغة أقرب إلى التصوير السينمائي الذي ينتقل به من مشهد لمشهد بلا انقطاع ،لهثًا وراء النهاية. 

وأخيرا وهي قراءة انطباعية متواضعة فقد تحتاج لزيادات أو إحالات أكثر.

يذكر أن أميمة منير جادو من مواليد منوف، محافظة المنوفية، حاصلة على ماجستير في الإعلام التربوي، ودكتوراه في فلسفة التربية، ولها العديد من الأعمال المتنوعة، فمن كتب الأطفال صدر لها من قبل: أولاد بلدنا، وصناع بلدنا، وشطار بلدنا،  وفي مجال التربية صدر لها الخطاب التربوي في أدب الأطفال يعقوب الشاروني نموذجا،  تربية الطفل في التراث الشعبي المصري، ومن كتب الأدب صدر لها العديد من الأعمال منها: شاعر وملهمة، عاش في وجداني، وخنجر في البراءة، والمجموعة القصصية الرجل الحريري وغيرها من الأعمال.

 

 

 

تابع مواقعنا