الجمعة 26 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

إنها لا تُهزم.. قراءة في لوحات الفنانة هالة مختار

الأحد 20/مارس/2022 - 10:41 م

بما أننا نعيش أجواء أعياد للمرأة وفيونكاتها وأشيائها واحتفاء بالربيع وردة العام، والمرأة وردة المجتمع، فالجدير بالذكر زيارة لطيفة لمعرض فنانة تشكيلية بالصدفة مساء يوم ماطر، رغم سيطرة حالة الانكماش في الشرنقة داخل لحاف القطن نحارب به البرد والوحدة والواقع، خرجت ولجمال القدر قادني حب الفن لمعرض صديق عزيز كان بجوار هذا المعرض، ثم ولكون هذا الأخير معروضا بطريقة مكشوفة في قاعة كل واجهاتها زجاج فتناثرت شرارات البهجة واللطف من معرض الفنانة هالة للخارج وجذبتني وأدخلتني هذا العالم العجيب!

 


باختصار كَلِمتها التي عنونت بها المعرض وجود شابة متعطشة للجمال والحياة تميل إلى تصوير ما تجده في تجربتها إلى لوحات جمالية مركزة، ومن ديدن الفنانين البحث عن الفكرة المفتاح للبوح والحكي والتشكيل، يجعلونها محور العمل أو الكتاب أو المعرض، لكن لم يستهوها شيء أو كان ما بالداخل أقوى شجونا ووَقْعًا عليها، فكان عالمها هو الموضوع، الإنسان الأنثى؛ الطفل والمرأة والأم، طبيعة صعبة التأويل والشرح، ذات تحوي السلام والحرب، الجمال والقبح، القوة والضعف، الولادة والوجود والموت، حينما مات أبي رأيت في أمي كل شيء، وكنت أقول لنفسي في طفولتي وشبابي لا لن أستطيع أن أكون أمي، إنها لا تهزم!


وحسبت أن الأمهات والنساء صُنعن لكي لا يبقى هناك أي خلل في الكون، ولم أكن أستطيع أن أتصور بذهني الطفل أن أمي لم تكن طفرة في النساء ولا النموذج؛ أمي مثل النساء، تلك الذات الخاصة بكل وجوهها التي ترضاها ولا ترضاها.
نبدأ بجملة: "في انتظار ما سيأتي" شعارا خارجًا من تعب التجربة، وكأنه يستبشر بقدوم النتائج ناضجة وشهية، غدا مشرقا منتظرا ونبضا متأهبا للاكتشاف والانطلاق في المجهول محملا بكل مغامراته وعجائبه، لم تكن الجملة لها دلالة عن رغبة لقلب حالم أو إقدام طفولي، بل كان بريق عيون مرت عليها كل درجات ألوان الطيف، وكل تناقضات الحياة والذات المرأة بالتحديد.


وضعت الفنانة عشر جمل مفتاحية لمعرضها لا لتحدد الرؤية من خلال العشر معالم، وإنما محاولة منها لتوجيه الرؤية لهذه العشر، وكأنها نقط ارتكاز لبلورتها السحرية التي ترى من خلالها عالما أفضل مليئا بالمحبة والعطاء والتوازن، بالأمل حتى ولو كان خيالا نصنعه داخلنا ونخرجه بطاقة الأمومة للعالم.


العالم الأزرق، السعادة، طفولة القلب، تعب الكبار، الطاقة، النضج، ما يستحق، التناغم مع صراعات الواقع والتسامح مع القادم، كل هذا متمخض في رحم أنثى الأرض، وصدرها الهش، وقلبها الجوهرة، وعقلها العتيد، وروحها وما أدراك ما روحها.


تُحدثنا الفنانة عن أقصى دواخلها وتصف الحالة ب "غارقة في سمائي الزرقاء" ولم يكن غريبا على هذا الوصف أو اللون بل كان يمثلني لأني مكثت في مراهقتي شهورا وسنين، أبحث عن لوني المفضل أو لون ذاتي، ولم يكن إلا الأزرق، سماءً أو بحرا أو نسقا متفردا، كثيرا ما يدل على الحزن من عدم تقدير الذات، تلك الذات المقدسة مطلقة الشفافية، التي إذا أردنا تصورها تشكلت في دائرة تنفجر أحيانا في أنهار وغالب الحال في دموع لامعة وحارة، رمزت إليها الفنانة باللون الذهبي، وقد تعني بها مقدساتها الروحانية التي تمثل نقطة الضعف ومرتكز القوة في نفس الوقت.


تظهر الدائرة في أكثر من لوحة وفي أكثر من معنى، نراها عزلة وتَوَحُدًا، في الانهيار والبناء، ثم نراها مصدر الطاقة والكمال، مبدأ الحكاية ومنتهاها، تذكرني في لوحة بأبطال الكرتون الذين يمتلكون طاقة داخلية ويقومون بحركات دائرية لتوليدها أو حثها من مكمنها، فيشع من دواخلهم جوهرهم المشع، لذلك نرى الشابة في إحدى اللوحات تحتضن الدائرة الذهبية في صدرها وفي مرة تتوسدها وفي أخرى تعتدل لتتأملها.


وكانت ولا تزال الدائرة رمزا لإيقاع الحياة وتناغمها، وإحقاق للتوازن الروحي والتواصل مع الطبيعة، وحنينا أزليا للرحم والمشيمة، وحضن الأم المتدفق حبا وحنانا، وظهر هذا في أكثر من خمس أو ستة لوحات حضن أم لطفلها، وحضن أم لأطفالها، وأذرع ملتفة في دوائر. 

 

وتبرز طاقة الأمومة بشدة كمفتاح لعقدة تصاعدت بتتابع مواضيع اللوحات، فتلك المرأة شديدة التميز، الغارقة في روحها المقدسة، تتعب من حياة الكبار وتجر أذيال ظلها الأزرق بصعوبة في واديهم، وكثيرا ما تحس بالارتباك معهم لتعقيدات حياتهم، وتصنع هالة من روح الطفولة تحيط بها وتحفظها، وترى كل السعادة في طفولة القلب وبياض الطوية، وتصور لنا عالم الطفولة ببراعة وشجون وحنين فنرى الطفلة تلعب بالدمى وبالعجلة وبالأرجوحة وبالحصان الخشب وتطير مع طيارة الورق، وتكتشف الأسماك في البحر، ومع الرفيقات اللواتي يأذنَّ للوردة أن تفتح وأن تضم مرة أخرى بحركات أيديهن المتصلة، وهي ترقص وهي تلعب مع الفراشة في الحديقة وفي الملاهي وحتى وهي نائمة ملئ أحلامها.


 

ويجدر بالذكر استعمال الفنانة هالة أسلوب الكولاج في لوحات الطفولة وكان موفقا ومناسبا لأجواء الحركة والصوت والفرح.


في إشارات غير مباشرة بين الجمل تحكي الفنانة كيف واجهت الطفلة الشابة واقعًا من صراعات وتحديات صعبة ظنت لبعض الوقت أنها تفوق قدرتها، لكنها مع التجربة والتماهي في دوائر الذات الهشة والمسؤولة، تلك التي تبعث الحياة، وتحتوي على الموت في دورة خِلقتها، تمر في موجات معقدة ومتناغمة من هرمونات يمكن أن تصيغ المرأة في صورة أعذب من سمفونية أو في صورة أهوج من العاصفة، هذا ما وضحته لنا لوحات أخرى أحب أن أسميها الأنثى، نعود للحديث عنها فيما بعد، اكتشفت من خلالها الشابة قدرتها على التجاوز والتحقق، دون مساعدة من عصى الحورية السحرية، أو اتكالية فارغة، إنما بطاقة الأمومة الرحيمة والتصالح مع الآخر والتسامح مع الأحداث ومجريات الأمور والسعي للأمام بقلب طهره الحب والعطاء.


في لوحات الأنثى تتحدث الفنانة بأريحية عن طبيعة الأنثى، لكنها للأمانة لم تصور الواقع بل وصفت أثره عليها، وتفاعلها به بلمسات جمالية تأملية، وهنا تكمن براعة الفن، بانفصال طفيف بين عين الفنان، وعين الإنسان، فتكون اللوحات نتيجة ما رآه الفنان في عين الإنسان سواء كان هو شخصيا أو غيره، فيعالج البعد الفني وجوه قصور كثيرة في البعد النفسي ويرفع معه القيمة المعبر عنها، وإن كانت ابتداء كل القيم المعبر عنها هنا على نفس القدر من الاحتفاء والتقدير، حبا أو غضبا أو قلقا أو حيرة أو خوفا أو خجلا أو إقداما، وغيرها كوجوه طبيعية تمر من خلالها الأنثى، وهذا هو الصواب التصالح مع الذات واحتوائها بكل جوانبها والتدرج معها ومصاحبتها وأخذ يدها من الألم إلى الأمل ومن الخيال إلى الواقع ومنه إلى الحلم، ومن الأرض إلى السماء.

 


في دورة لا تنقطع ولا تتعطل تعمل بلا هوادة إلى ما شاء الله لها من مقام، بعصافيرها المحلقة ومراكبها السائرة ودوائرها المتقاطعة والمتناغمة، نغما شاردا كثيرا ما يستهويه الخروج عن التيار ويرجع إليه مرة أخرى، صانعا صوته الخاص، جوهرا لذات عليا هي المرأة.


طوفت الفنانة هالة في معرضها على كل مراحل الأنثى وتماهت معها في كل تفاصيلها طفلة وشابة وأما ومثلتها لنا بصدق وبحساسية مفرطة باحت من خلال تقاسيم الوجوه وما يحيط بها بحيوات كثيرة حالات إنسانية متنوعة لا تخلو امرأة زارت المعرض أو اطلعت على الأعمال إلا وتقول أمام أحد اللوحات هذه أنا يوم كذا وكذا، أما بالنسبة لي أنا في كل اللوحات وكل اللوحات تحكي عني شخصيا دون مبالغة.


بلغ عدد اللوحات 74 لوحة، قدمتها الفنانة هالة مختار في معرضها الشخصي الثالث بعد المعرض الأول: "حكاوي مصرية" والمعرض الثاني: "هن – حالات مؤقتة"، بين فترة: 10 إلى 20 فبراير 2022م في متحف محمود مختار وكان له صدى إيجابي في الأوساط الثقافية والفنية وتغطيات صحافية، والفنانة من مواليد 7 يونيو 1973م، حاصلة على بكالوريوس فنون جميلة، قسم جرافيك من جامعة حلوان، عملت معلمة تربية فنية، وفنانة تشكيلية مستقلة، وعضوة بنقابة الفنون التشكيلية، وشاركت في العديد من المعارض الفنية.

تابع مواقعنا