الخميس 25 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

رسائل من طرابلس.. أدخلُ الأربعين وأنتِ معي (3)

الثلاثاء 26/أبريل/2022 - 01:58 ص

يجلسُ الآنَ وحيدا كما يحبُّ تفتح الذكريات شبابيكها عليه وتدخل دفعة دفعة، يبتسم ويَهُمُّ بالقيام لكنَّهُ يعدلُ عن ذلك ويغيِّرُ وضعَهُ، يستلقي على ظهره ويضعُ يديه خلفَ رأسِهِ مُشْتَبِكَتَيْنِ كعَهْدٍ قديمٍ قطعهُ مع صديقٍ نسيَ الآن اسمَهُ ورسْمَهُ لكنه لم ينسَ العهد.

الليالي الشتائيةُ حنونةٌ وشجيَّةٌ ومليئةٌ بالتداعي، وفبراير شهرٌ عجيبٌ حقا يبكي ويضحكُ في آنٍ واحد، والفتى معه كذلك يبكي ويضحك، ينظرُ للسقف الأبيض والحوائطِ الملساءِ الرمادية، لا شيء واضح الآن، مدَّ ذراعَهُ وأمْسَكَ هاتفهُ وبدأ يكتب -ترى لمن ستكون الرسالة؟-:

حبيبيتي، يبدأ رسالته ثم يمسحها، صديقتي العزيزة، ومسحها أيضا، رفيقتي الأقرب ثم يمسحها، ويبدأ من جديد:

لن أسميك بعد الآن، لكنني أكتب إليك وبي شجنٌ كبيرٌ لا أعرفُ تحديدا سبَبَهُ لكنَّني كلما شعرتُ بهذه الحال تذكرتُكِ على الفور، مر عليَّ الآن شهران إلا سبعةُ أيامٍ بلياليهِنَّ، أشياء كثيرةٌ حدثَتْ بداخلي وما زلتُ أتَلَمَّسُ طريقةً لفَهْمِ نفسي وفهم الأسبابِ التي تُوقِعُ بي في هذه الحال من الشجن المتكرر، لكنني أتذكرُ كلَّ شيءٍ بيننا حتى أنني أصبحتُ أستوعبُ كلَّ ما كان..، كل هذا البعد والفراق الذي عرضني لجلد ذاتي بل وللتَّفَرُجِ عليها وهي تُجلَدُ بيدِ وألْسِنَةِ الآخرين، الأمورُ في مجملها ليستْ شخيصة، إننا في الكثير من كياننا نتكون من مجموع مَنْ مررنا بهم وما عشناه من أحداث، إنّ حاضرنا الذي نحياه مرهونٌ في أشدِّ أوقاته بماضينا، ومشدودٌ إليه بما استقر فينا منه، نحن العاطفيين الحالمين الذين يرون الحياةَ نزهةً عائليةً أو رحلةً من رحلات المدارس الابتدائية، لنا كلُّ الحقِّ وعلينا كلُّ الحق أيضا، يستغرقُ أكثرَ ويَحُكُّ أنفه الملتهبَ من شدِّةِ البرودةِ ويستأنف رسالته:

أكتب إليك من بلاد أنهكتها الحربُ الأهليةُ وتآمرت عليها وحوشُ الداخلِ والخارج، وسَعَتْ في خرابها أيادٍ مرتزقةٌ ببنادقَ مسمومةٍ وطائراتٍ لأمَمٍ بيضاءَ غادرة، ومع كل هذا فإن شعبها يعيش حياته كاملة، يحب وينسى ويبكي ويضحك ويخرج للمتنزهات والمقاهي والمطاعم، يقيم الأعراس ويرحب بالزائرين ويكرم الضيوف والغرباء ويحضر الاحتفالات والأمسيات والمعارض الفنية، ولقد أعجبني الكثير من رساميها ورساماتها وعلى رأسهم الفنانة الرائعة (حميدة صقر) والفنانة (شفاء سالم) وآخرون، وهاتان الفنانتان تمثلان جيلين مختلفين ومن خلال تجربتهما يمكننا الحكم بأن الحرب التي حدثتْ في هذه البلاد أحيتْ روح المقاومة والتحدي، وأزكت نارَ الفن في الأرواح. في طرابلس الليبية صوت السلام ينتصر ويعلو على صوت الحرب.

أكتبُ وأنا حائرٌ ماذا أفعلُ غدًا؟ لقد طلبوا مِنِّي هنا أنْ أشاركُ في حفلٍ ثقافيٍّ فوافقتُ، ربما سألقي عليهم بعض القصائد التي تحيي الأمل والحب وتُشعِلُ الحماس، لا بُدَّ أنَّهم في حاجة إلى هذا كثيرا، المهم أنني أنظرُ الآن للسقف وقد تبدَّلَ لونُهُ إلى الأزرق، الحقيقة أن كلَّ شيء يصبحُ أزرقَ كلما فكرتُ فيكِ، أبتسم الآن الابتسامةَ الجانبيةَ التي لمْ أعدْ أعرفُ من فينا منحها للآخر وطَبَعَها على فمه، لم يعد الحزن يستهويني أصبحت السعادةُ مطلبي وغايتي وأصبحتُ أبحثُ في الناس الحزانى عن لحظة سعادة تسكن بداخلهم، أصبح للبكاء صوتُ العصفور المغرد في أذني، فهل هذا طبيعي؟ إن كل ما نمر به في حياتنا يا عزيزتي فرصة لاكتشاف ذواتنا وفرصةٌ لمراجعة النفس، ووقت مناسب لكي نقول للوجود شكرا، وإنَّ المِحَنَ التي نُصَابُ بها ما هي إلا فرصة لاختبار إرادتنا ومحاولةٌ لتلمس طريق العناية وبابها المفتوح علينا بعيون لا تنام ولا تغفلُ، النِّعَمُ التي يغرقُ الكونُ فيها النعمُ التي يتقاتلُ الناس عليها، كلهم يريدُ حظًا أوفرَ من الآخر، ربما وجدتُ السعادةَ إن كنتُ وجدتها في كل ما يمكن أن يتنفس في هذه الأرض حتى في انفجار قنبلة على حيّ سكني بريء، ومن قال إنه بريء؟ إن سكونَه جريمة وسُكُوتَه وبقاءَهُ في ثبات جريمة، واشتهاءه ما ليس له جريمة، الحركة أيها الناسُ، الحركة والترحالُ والتنقلُ بين أرض الله الواسعة أيها المتعطشون للراحة ولمْ يعدْ في الكون ثَمَّةَ راحة.

يرنُّ الهاتفُ ويقطعُ حبلَ أفكارِهِ لقد نسي أنْ يجعله على وضع الطيران، إنه اتصال من مصر من صديق قديم جدا من أيام الدراسة الجامعية، يطمئنان على بعضهما في عجل لا بُدَّ أنَّه في العمل الآن وأن مديره يراقبه، عادة سيئة من عادات المديرين الحديثين، أغلق الهاتف وقام من مكانه ذهب إلى المطبخ الغريبِ في البلد الغريبِ، أعدَّ قهوةً جديدةً وبينما هو في طريقه إلى الصالة حيث الأريكة الأثيرة لديه، فإذا به يتذكر أول لقاءٍ له بصديقه، كان الوقت نهارا وكان الفتى في السنة الأولى بالجامعة، وكان متلهفًا على الدرس والتحصيل، فبرغم عمله ليلًا كان لا يُفَوِّتُ محاضرةً، وفي إحدى تلك المحاضرات وقعت عيناه على شابٍ يرتدي بدلة جينز غامقةً ويتأبَّطُ تحتَ ذراعه كتابا غيرَ الذي نحمله نحن الطلاب، كان الكتابُ من القَطْعِ الصغير، عيناه زائغتان متباهِيَتانِ ونظرته لا تستقرُّ على جهة، حدَّثَ نَفسَهُ: هذا الشاب مختلفٌ كثيرا عليهِ آثارُ الفكر والهُيامِ والليلِ الطويل وكما يُعرفُ المؤمنون بسيماهُمْ عرفَ أنَّهُ شاعرٌ، وبينما كانا خارجين من المدرج بعد أن انتهت المحاضرةُ انتهزَ الفتى فرصةَ الزحام واقتربَ منه وسألهُ بجديَّةٍ واهتمامٍ بالغين أأنت شاعرٌ؟ قال نعم. قال له وأنا كذلك. وتعرفا على بعضهما، وبعد حديث قصير أخبره أنَّ الكليةَ بها جماعةٌ للشعر ويمكنُ له أنْ يأتي ويحضر معهم. قال له ذلك وهو يتحرك فقد كانت عيناه ما تزالُ زائغتين كأنها تبحثُ عن شيءٍ أو أحدٍ ما، وقد كان بالفعل، إنه يبحث عن حبيبته، التي تدرس بنفس الكلية، فَرَقَّ لحاله كثيرا وتضامنَ معه وتركته بعد أن وعده بحضور لقاء جماعة الشعر.

كان هذا اللقاء الأول بصديقه شريف، وكان ذلك في وقتٍ وصل فيه صاحبُنا الفتى إلى ذروة شغفه بالشعر وبحثه عن طريق وسبيلٍ لهذا العالم وهؤلاءِ القومِ فكان هذا الصديق، تجهز للموعد وذهب لاجتماع الشعراء وتعرف عليهم وأعجب بهم أيما إعجاب، وخرج سعيدا خائفا متحيرا ومتسائلا بينه وبين نفسه: ما كل هذا وأين أنا من هؤلاء؟ إنهم رائعون ولا يخطئون بينما أنا أحتاج الكثير والكثير. لا بد لي أنْ أضاعف عدد ساعات المذاكرة ولا بد أن أتعلم هذا الوزن الذي تحدثوا عنه كثيرا، متى تنتهي هذه السنة الأولى؟ يقولون إننا سندرس أوزان الشعر في السنة الثانية، وهل سأنتظر؟ لا لا سأبدأ من الآن سأذهب لزميلي وصديقي نعمان، وأسأله عن هذه الأوزان لقد ذكر لي قبل ذلك شيئا عنها ونحن نتذاكر النحو معا.

أوووه ياعزيزتي لقد أطلتُ عليكِ في هذه القصة وكان أولى بي أن أكتب لك عن حياتي الجديدة، يفكر ويكتب ما يفكر فيه دون توقف أو تمحيص لكنه بعد أن انتهى من هذه الكلمات الغامضة عاد إلى الرسالة ومسح كل ما كتب واكتفى منها بالآتي:

أيتها الرفيقةُ العزيزةُ أنا بخير، وبالأمس دَوَّنْتُ بعضَ الملاحظات حولَ بعضِ اللوحاتِ التي أعجبتني، وراجعتُ بعضَ الكتاباتِ التي كتبتها عن بعض الرسامين المصريين والعرب ربما سأرسلها لك لأخذ رأيكِ فيها كما كنا نفعلُ قديما، أفكرُ في جنوب مصر وفي قبر أبي الذي لم أزُرْهُ منذ أن اوصلته إليه، وأفكر في جلستنا معا على ضفة النيل أفكر في السنين التي لم تستطعْ أن تنسيني ابْتسامَتَكِ ولونَ عينيك أفكرُ الاستعجال وفي وصبري على الأيام وفي أنني أريدُ أنْ أدخُلَ الأربعين وأنت معي.

تابع مواقعنا