الجمعة 29 مارس 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

أحمد جمال عيد يكتب: القاهرة 20

أحمد جمال عيد
ثقافة
أحمد جمال عيد
الثلاثاء 14/يونيو/2022 - 08:10 ص

 أحمد جمال عيد، فنان تشكيلي أستاذ الجرافيك في كلية الفنون الجميلة جامعة الأقصر، كما أنه كاتب صدر له مجموعة من الكتب منها:الصورة التشكيلية في المشهد التشكيلي العربي، وكتاب الأدوات البصرية لأدب الطفل المصور وتأثيرها على ثقافة الطفل العربي، وكتاب: أسس التصميم الجرافيكي للمبتدئين، وهذه قصة قصيرة له القاهرة 20.

منزل ريفي  مهجـور، يقبع وراء النافــذة المكسورة زوج وزوجته وطفل صغير، يضحكون بلا توقف، ينبعث من وراء تِلك النافذة عِطر كثيف دافيء. وعلى نحوٍ غريب يحاول الزوج الذهاب إلى دَرَج المنزل، لكن دون فائدة ! الدَّرَج تشكّل بهيئة ثُعبان ضخم ومخيف ينتهي عند الدور العلوي!! ينظر الزوج إلى الخلف حيث ترقد زوجته وطفله الوحيد ولكنه يصاب بالزعر إثر اختفائهم، يحاول الصراخ دون جدوى،كأن كُل كلمات النجدة تبخّرت في الهواء أو ربما ابتلعها الثُعبان الضخم ليفتح شهيته قبل أن يبتلع طموحاتنا أيضًا.
    استيقظت فجأة على صوت سائق الحافلة التي استقلها للذهاب إلى القاهرة وهو يقول لنا عبر الميكرفون: السادة الركاب.. الحمد لله على سلامتكم نحن الآن على أعتاب مدينة القاهرة.
    استيقظت وأنا أحاول إقناع نفسي أن ما شاهدته من أحداث تسببت في ضيق صدري كانت مجرد أضغاث أحلام وأن هذا الثعبان الذي ابتلع أمنياتي وطموحاتي كان عبارة عن حلم وليس حقيقة.
   انحنى الطريق في مسار معوج مُنكسر تفوح  منه رائحة العاصمة المُمتزجة بعبق الماضي المتمثل في بنايات مقابر المماليك على طرفي الطريق.
على أطراف صخب العاصمة المُلطّخة بسواد عوادم السيارات، والمتطفّلة على أصحاب الجسد المُنهك إثر البحث عن لُقمة عيش وسط ضجيج الباعة الجائلين الذي يشق صوت آذان العصر في مشهد يُشبه سوق الثلاثاء في مدينتي الصغيرة باستثناء بعض مظاهر الحداثة والتي تعد من وجهة نظري سمك، لبن، تمرهندي.
    خطوت بصُحبة شنطة سفري نحو المقهى القابع في وسط البلد والذي اعتاد على ارتياده مع رِفاقي من سكان القاهرة، منذ أعوام عشرة مضت ولم أقابل رُحَيِّم الذي صافحني بقوة وتِرحاب، قبل مايطلب لي قهوتي السادة وأرجيلة بطعم الكيوي لاعتقاده بأن المثقف يجب أن يكون من المدخنين وأصحاب المِزاج وإلا فكيف سيحضر إليه الإلهام والعُمق !.
   ارتشفت قهوتي واعتذرت عن الأرجيلة نظرًا لإصابتي بحساسية صدرية منذسنوات قليلة.
- لماذا لا نسمع اسمك يتردد بقوة في الوسط؟ هكذا اقتحم رُحَيِّم سُكون اللقاء الأول بعد عَشر سنوات بسؤال ثقيل ومُلتو. فجاء ردي: تقصد وسط المثقفين ؟ أم أي وسط! 
- نعم، لا أرى لك أي لوحات تشكيلية في المعارض الكبيرة، فمنذ تخرجنا سويًا في الجامعة من عَشرة أعوام تقريبًا وأنت حَبيس الجنوب، بينما أنا متواجد هنا في القاهرة مُشاركًا في غالبية الفاعليات الثقافية.
    سؤال ملأت أصداؤه المكان ولهجة ازدادت حِدتها تِباعًا، بعدما قلت له: يا رُحَيِّم أنا لست حَبيسًا ولا أتوقع أن الجنوب المُلهم يُعد بالنسبة لك سجنًا! أما ما يتعلق بالوسط فالأوساط كثيرة جدًا ياصديقي، ربما أكون غير متواجد في أيٍّ منهم، لكن يبدو لي أنني مُتحقق في أحدهم بشكل يفوق توقعاتك.
- تقصد مجال إخراج الكُتب؟ 
- نعم، أليس فن الكتاب أحد أهم أنواع الفنون البصرية؟
    انتظرت رد رُحَيِّم لكن لا إجابة، فقط وجه غاضب مُقتضب، الأمر الذي جعلني أحاول تَلْطيف الجلسة بالخروج كليًا عن الموضوع، فسألته مُمازحًا:
- أخبرني عن عملك الجديد يا رُحَيِّم، وكيف لك أن تكون متفوقًا به مثلما أراك الآن وسط صَخَب العاصمة، القاهرة التي تُقهر الأعصاب؟!
    لم يردّ رُحَيِّم واكتفى فقط بابتسامة مُزيفة مُقتضبة، ويبدو أنه لم ينس تِلك المسألة القديمة التي تتعلق بتفوقي في دراستي برغم أن كل مِنا في تخصص مُختلف، ولكن إرادة الله تحققت في تعييني مُعيدًا بالجامعة فور تخرجي منذ أعوامٍ بعيدة. الأمرالذي لم يَرُق لرُحَيِّم وجعله طوال هذه السنوات يشعر بالغيرة والحسد.
    حاولت كثيرًا أن أُثبت له أن الله عز وجل عادل في كل شيء، وأنه - أي – رُحَيِّم، غير مُطالب بأن يحاول مِرارًا وتِكرارًا التقليل من شخصي أو الآخرين ليُثبت لنفسه بأنه الأفضل. قُلت له بنبرة صادقة: أنت بالفعل أفضل.. أنت أفضل في شيء، وأنا أفضل في شيء آخَر، وغيرنا أفضل في أشياء مُتعددة. هكذا الكون وهكذا الحياة لنُكمل بعضنا البعض، فالكون يسير بِنا بشكل مُقدّر لنا مُسبقًا وما نحن إلا أعضاء بالمسرح الكبير "مسرح الحياة"  نحفظ أدوارنا جيدًا، ونرتجل في أحيانٍ كثيرة لكي نُوائِم بين مسألتي التخيير والتسيير.
سألته: هل الأحلام المُزعجة تقتحم نومك الهاديء ؟ فقال لي: لا، فأنا أنام عندما أقرر النوم. في أي وقت وكل مكان. 
أردفت سائلًا مرة أخرى:
- هل تُهاجمك نوبات تشعر فيها بضيق الصدر وصعوبة التنفس؟
قال مُندهشًا بعدما نظر إلى الأرجيلة: الحمد لله أنا بكامل صحتي، ألم ترَ كيف أشرب الأنفاس العميقة من أرجيلتي.
فقلت له: أرأيت أنت كيف تكون الحياة عادلة أيها الوغد ؟!
- ألست مُتفوقًا في عملك وراتبك يكفيك ؟ فقال: بلى، يكفيني.
    الحياة يا صديقي تُعطينا بقدر ما هي تحدد، لتأخذ في المقابل ثمن عطاياها.. عَشرة أعوام مضت منذ آخر لقاء بيننا، ستقول هي مجرد بِضعة أعوام من عُمر ممتد.. ولكن، هل تعلم إلى أي مدى ينتهي بِنا العُمر ؟! 
    إن لحظات الحيرة بين الصواب والخطأ ربما تستغرق بنا قرونا من الزمان.
الحياة عادلة يا رحَيِّم، فقط ثِق برب هذه الحياة.
 

تابع مواقعنا