الإثنين 29 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

آبي بين نقاط الضوء والظل.. الجانب الخفي للمجتمع الياباني!

الجمعة 22/يوليو/2022 - 09:46 ص

يتابع العالم عن كثب تطورات حادث اغتيال رئيس الوزراء الأسبق السيد / آبي شينزو، الذي اغتيل في الثامن من الشهر الجاري، وذلك أثناء حملة انتخابات مجلس المستشارين في أحد التجمعات الانتخابية العامة بمدينة نارا اليابانية الواقعة غرب اليابان. ولا شك أن الحادث كان، ومازال، يمثل صدمة كبيرة لكافة فئات الشعب الياباني، الكبير منهم والصغير على حد سواء، وذلك على اختلاف التوجهات السياسية المؤيدة أو حتى المعارضة له أو لحزبه الحزب الليبرالي الديمقراطي الذي بدأت حياته السياسية معه، واستمرت على مدى ثلاث عقود من الزمن، وهو أيضا ذلك الحزب المتربع على ساحة السياسية اليابانية لأكثر من سبعة عقود متواصلة من الزمن. آبي شينزو ذلك الرجل الذي أقام الدنيا وأقعدها بقرارته وسياساته المثيرة للجدل أثناء توليه رئاسة الوزراء على مدى قرابة عشر سنوات، فهو صاحب التاريخ السياسي الحافل ذي المحطات والمنعطفات العديدة المثيرة للجدل، التي ظلت ترتفع بصاحبها تارة وتنخفض به تارة أخرى، مررا وتكررا خلال مشواره السياسي الذي توقف فجاءة دون سابق إنذار بحادث اغتياله، تاركا كثيرا من التساؤلات حول أسباب اغتياله وأبعاد مقتله.

منذ عامين تقريبا وبعد تنحيه لم يعد السيد آبي رئيسا لوزراء اليابان، لكنه بالرغم من ذلك كان وحتى بعد تنحيه عن منصبه، ما يزال من الشخصيات السياسية ذات التأثير الكبير على القرار السياسي باليابان. لذا يمكننا القول إنه كان واحدا من أشهر الزعماء السياسيين الذين شهدتهم اليابان على مر الثلاثين عاما الماضية.

بدأ آبي طريقه نحو عالم السياسة منذ نعومة أظافره، فأسرته ذات إرث عريق في العمل السياسي، فجده هو السياسي المخضرم ورئيس الوزراء الأسبق كيشي نوبوسكي (1960- 1957)، أما والده فهو آبي شئتارو رجل السياسية المحنك الذي تقلد كثيرا من المناصب الوزارية المهمة على رأسها حقيبة وزارة الخارجية ووزارة التجارة الخارجية والصناعة، علاوة على أنه كان من أبرز الشخصيات المرشحة لرئاسة الوزراء في حقبة الثمانينات من القرن الماضي. وبعد وفاة والده المفاجئة عام 1991 قرر آبي أن يقتحم معترك الحياة السياسية بترشحه في الانتخابات النيابية عام 1993 واستطاع أن يحقق الفوز فيها؛ ليصبح عضوا بالبرلمان عن عمر 38 عاما.

ثم تولى آبي رئاسة الوزراء لأول مرة في عام 2006، وكان أصغر من تولي المنصب في البلاد منذ الحرب العالمية الثانية، ولكنه سرعان ما أعلن تنحيه عن منصب رئيس الوزراء بسبب مشكلات صحية، وذلك بعد عام واحد فحسب، شهد فضائح سياسية وغضب الناخبين بسبب فقدان سجلات خاصة بمعاشات التقاعد، وهو ما أدى إلى هزيمة تَكَبَّدَها حزبه الحاكم في الانتخابات النيابية لمجلس المستشارين آنذاك.



آبي وسمات القرار السياسي في عهده
 


تعتمد المؤسسات اليابانية بشكل عام والمؤسسات الحكومية والسياسية بشكل خاص على القرار الجماعي المشترك، إذ إن رئيس الوزراء في اليابان ليس هو الشخص الذي يتخذ القرار في جميع الأمور؛ لأن القرار عند اليابانيين أمر تتخذه المؤسسة، إذ تبدأ صناعة القرار في أدنى المستويات الإدارية، مرورا إلى أعلاها.

كما أن الأخذ بمبدأ المسؤولية الجماعية من أسس الإدارة السياسية اليابانية، لذا يصبح كافة أعضاء الفريق مسؤولين أدبيا ونظاميا أمام المسؤول المباشر عن تنفيذ العمل وتحقيق أفضل النتائج، فالمسؤولية في السياسة اليابانية جماعية، وليست فردية؛ وذلك لكون اتخاذ القرار يتم بصورة جماعية وليس فردية؛ وبالتالي يحاسب جميع أعضاء الفريق على أي تقصير في العمل وليس فردا بعينه. 

ومع ذلك نجد أن حكومة آبي استطاعت أن تضع قواعد جديدة للقرار السياسي الذي يترتب عليه تقرير السياسات واتخاذ القرارات التنفيذية المختلفة على مستوى جميع مؤسسات الدولة المركزية والمحلية. 

فلا يستطيع أحد الآن اتخاذ أي قرار نوعي أو تنفيذي إلا بعد الرجوع إلى ديوان رئيس الوزراء، ولقد استطاع آبي أن يحكم قبضته على ولاء العاملين من الطاقم التكنوقراطي أو ما يعرف بالبيروقراطيين "الkanrya" وتبعيتهم من خلال وضع صلاحيات التنقلات الوظيفية وتعينات قيادات البيروقراطيين في الوزرات والهيئات الحكومية المختلفة تحت سلطة ديوان الوزراء، وبالتالي استطاع أن يحرك قرارات الدولة التنفيذية من خلال آلية سياسية تتمركز في ديوان رئيس الوزراء، مما جعل الرأي العام ومؤسسات المجتمع المدني تعتبر آبي حاكما ذا طابع دكتاتوري يتخفى تحت عباءة الديمقراطية. يذكر الكاتب شيبا ريوتارو في كتابه Kono Kuni No Katachi أو (شكل تلك الدولة) أن شخصية البطل المطلق غير موجودة في تاريخ اليابان، ولكن توجد شخصيات استطاعت تنظيم الهيكل الحكومي للدولة. 

ومن هنا، فليس من المحتمل أن يصبح أبي بطلًا قوميًا، ولكنه في الوقت نفسه، استطاع أن يقدم رؤية استراتيجية وخطة عمل فعالة ساهمت بشكل كبير في إعداد الهيكل الحكومي للدولة، بوصفها محاولة من أجل إعداد اليابان من الناحية الدفاعية والاقتصادية كما حاول الاعتماد على علاقة التحالف المميزة مع أمريكا للارتقاء بالبلد إلى مستوى آخر تصبح فيه أكثر استقلالية. إن عبارات مثل (نظام ما بعد الحرب والبلد الجميل والتحدي من جديد) التي تبناها آبي (رئيس الوزراء آنذاك ) هـي في رأي كثير من الإعلاميين والمحللين تعبر عن تفكير ربما يؤجج الفكر القومي الذي لطالما تخوفت منه اليابان بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، التي انتهت بهزيمة اليابان. ويعود سبب هذا التخوف إلى النظام التعليمي السلمي الذي تبنته اليابان منذ وقت طويل وكذلك تبنيها فكرة زرع مشاعر الخوف تجاه الحرب بشكل عام، وبالتالي فقد أدى ذلك إلى الحساسية تجاه أية حركة تستدعي المشاعر القومية اليابانية من جديد. ولكن منذ عدة سنوات وعندما كان أبي على رأس الحكومة، فقد صرح أمام لجنة الميزانيات لمجلس المستشارين: “أريد إخراج اليابان من عقلية ما بعد الحرب”. 

"لقد مضى على الحرب سبعون عاما، وبهذه المناسبة أود العمل على تكوين دولة جديدة تواكب التطورات العالمية على كافة المستويات". وأضاف: "أريد أن تبقى اليابان بلدًا سلميًا ولكن الحقيقة هي أ أن الدستور الحالي هو من صنع قوات الاحتلال". لا تعرف بالضبط ماذا كان يعني آبي بما أطلق عليه (نظام ما بعد الحرب)، وقد يكون عدم إدراكنا لماهية هذه العبارة أمرا خطيرا للغاية، ومع ذلك فإن محاولات آبي لجعل اليابان قادرة على البحث عن مصلحتها بطريقتها الخاصة ليس بالأمر الخاطئ. وأعتقد أن آبي كان مدركا لذلك تماما، ولذلك فقد كان يؤمن بمدى أهمية حماية اليابان من الناحية العسكرية وجعلها قادرة على الدفاع عن نفسها دون مساعدة من أحد، مما جعله يسعى دائما من أجل تغيير الدستور والعمل على إيجاد رؤية أساسية master plan يستطيع من خلالها جعل الشعب يلتف حولها. وفـي هـذا السياق يمكننا أن نستخلص أن استراتيجية آبي في (صنع نظام ما بعد الحرب البلد الجميل) هي استراتيجية رئيسية لإعادة إحياء اليابان من جديد.



ظاهرة الغضب العشوائي والعنف الفجائي !



لاشك أن هذا الحادث سوف يكون نقطة تحول واضحة لكثير من الأمور داخل المجتمع الياباني.. تحول في كيفية ترقب العنف والوقاية منه، فمن يعيش في اليابان يدرك أن استخدام العنف أمر غير مألوف بالنسبة لساكني هذا البلد، وأقصد هنا العنف المباشر بين الناس في مشاهد الحياة اليومية. فالعيش في هذا البلد يبعد الإنسان كثيرا عن التفكير في العنف.

وبالتمعن في وقائع حادث الاغتيال التي مازالت في مرحلة البحث والدراسة، إذ يشوبها كثير من التساؤلات الغائمة والمعلومات -غير الواضحة حتى الآن، إلا أننا نستطيع أن نقول إننا لسنا أمام حادث اغتيال سياسي يقوم على دوافع فكرية أو سياسية، ف التصريحات الأولية للقاتل توحي بدافع يكاد يكون قائما على ضغينة شخصية دون أدني مساس بالواقع السياسي، فقد أدلى بأقوال مفادها هو "أن القضية ليست قضية خلاف حول المبادئ والفكر السياسي للسيد أبي بل القضية هي أنني أحمل ضغينة خاصة تجاهه هو شخصيا".

إذن، فالحادث ليس بدافع سياسي وإنما بدافع شخصي قائم على افتراض من طرف واحد، وهو الجاني فالجاني يعتقد أن الفقيد (رئيس الوزراء الأسبق السيد آبي) كان على صلة برئيس لجماعة دينية كانت هـي السبب في انغماس والدته بها وتدهور الحالة المادية للأسرة نتيجة قيام والدته بتقديم تبرعات مالية فائقة الحد لتلك الجماعة؛ مما جعله يحمل ضغينة تجاه أبي نفسه دون أن يكون لذلك التصور أساس من الصحة. فبناء على المعلومات التي أفصحت عنها الشرطة، والتي تفيد بأن جد أبي لأمه (الجد من قبل الأم) كان أحد الداعمين لتلك الجماعة أو المؤسسة الدينية، وأن الصلة القائمة بين تلك المؤسسة والسيد آبي لا تتعدى مستوى المعرفة والتواصل الاجتماعي بين رجل سياسة منفتح على كل الفئات العاملة في المجتمع وجماعة ذات نشاط ديني ومجتمعي بالمجتمع، دون وجود خصوصية في مضمون العلاقة القائمة بينهما.

وهكذا تكون حياة آبي قد انتهت بسبب حالة من الغضب غير المنطقي لأحد المواطنين بهذا البلد الذي طالما كان، ومازال، يعد بالنسبة لنا بعيدا من حيث الجغرافية والعقلية معا، وعندما نبحث في اللغة لتوصيف الجانب السيكولوجي لدافع الجاني في حادث الاغتيال هذا، نجد أن الكلمة اليابانية "ساكا أورامي "هـي أبلغ كلمة يابانية تستطيع أن تصف هذا النوع من الحالة النفسية للجاني. وقد يصعب علينا شرح معناها الدقيق لارتباطها بأبعاد وخلفيات اجتماعية تخص المجتمع الياباني، لكن نستطيع أن نصفها بأنها كلمة تعبر عن حالة من "الحقد العكسي أو المضاد" الذي ينتج عن ضغينة وكراهية غير مبررة قد تعود لسوء فهم أو إحساس خاطئ تجاه شخص بعينه أو مجتمع بذاته. ومـن يـتـابـع الشأن اليابـانـي وخـاصـة الجانب الاجتماعي والسيكولوجي منه، يجد أن هذا النوع من الجريمة قد زاد في الآونة الأخيرة، فعلى الرغم مما يميز المجتمع الياباني من درجة عالية من السلم الاجتماعي والانسجام بين فئاته وطبقاته، فمن الواضح للعيان أنه يعاني من حالة من فقد توازن بين تطلعات أفراده واحتياجاتهم الحياتية، فاليابان ذات القدرة الاقتصادية والتناغم الاجتماعي الذي عرفت به حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي أصبحت الآن غير موجودة وحل مكانها تفاوت طبقي من نتاج هذا التراجع الاقتصادي وتصادم تطلعات فئات المجتمع المختلفة. فما شهدناه على مر السنوات القليلة الماضية من حوادث غير مبررة تفتقر الى دوافع الجريمة المعتادة يجعلنا نستطيع القول إننا نواجه ظاهرة اجتماعية فريدة في نوعها وأبعادها، فهي ليست حالة فردية بل هي حالة تستطيع رصدها في ارتفاع نسب الانتحار والاكتئاب والهروب الاجتماعي وتراجع نسب الزواج والإنجاب وطغيان الحالة الفردية والانعزالية بين كثير من فئات المجتمع...كل هذا جعل الفرد الياباني يتجه إلى فكرة الانتقام من المجتمع أو محاولة التخلص من حياته بوسيلة ما.. ومن أظهر الأمثلة على ذلك حادث إحراق شركة صناعة أفلام الكارتون بمدينة كيوتو غرب اليابان... ومثل حادث طعن راكبي قطار يامانوتي، أشهر خطوط القطار الداخلية بالعاصمة طوكيو...وحادث إحراق عادية مستشفى الأمراض النفسية بطوكيو...وغيرها وغيرها من تلك الحوادث التي تتسم بطابع الغضب العشوائي والحقد أو الانتقام غير المبرر من شخص بعينه دون سبب وجيه ودون سابق إنذار.

وهكذا، وعلى هذا النحو يبدو أنه ستترتب آثار خطيرة على تلك الحادثة غير المسبوقة،علما بأن آخر محاولة اغتيال سياسي باليابان لرئيس وزراء جرت عام 1932. كما أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فقط، ولكنه ينعكس بالضرورة على تفاقم حالة الحقد والغضب العشوائي الناتجة عن التراجع الاقتصادي والانسداد السياسي التي أصبحت ماثلة للعيان في أرجاء المجتمع الياباني الآن، بل تتكرر في صورة حوادث عنف من قبل أفراد عاديين كما لو كانت "قنابل غضب "موقوتة.كل هذا يدفع رجل الشارع وأصحاب الرأي إلى جدال ونقاش حول الدوافع التي جعلت مواطنًا عاديا يلجأ إلى السلاح في التعبير عن مشاعره ورأيه أو حتى غضبه.. ومن هنا فقد يكون هذا الحادث بمثابة دافع ينتج عنه تحول جديد في كيفية تفاعل السياسة والقرار السياسي من أجل العمل على إيجاد حلول لفك حالة الانسداد والتراجع الاقتصادي الذي أصبح يمثل حالة صدام طبقي واضح داخل المجتمع الياباني.

تابع مواقعنا