الجمعة 19 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

­مستويات التحليل الاجتماعي في ضوء التحليل النقدي للخطاب.. مقتطف نصي من يوميات مطلقة

السبت 03/ديسمبر/2022 - 03:56 م

يقدم مستوى التفاعل الاجتماعي في التحليل النقدي للخطاب الصورة العامة لموقع اللغة في المجتمع ويتم التوجه إلى الاهتمام بالأبعاد السياقية لضروب الخطاب الاجتماعية الرئيسة لتوضح الدور الذي يرسمه الخطاب في عملية نشأة التغير/ البناء الاجتماعي أو تدعيمه أو تطويره؛ بهدف تبيان التغيرات في النظام المجتمعي للخطاب المعيَّن، حتى يعد هذا الخطاب بمنزلة شكل وممارسة اجتماعية تفاعلية، حيث يتم تناوله في علاقته بالأيديولوجيا والسلطة، والموقع الذي يشغله الخطاب في إطار صورة السلطة باعتبارها هيمنة، وصورة تطور علاقات السلطة باعتبارها صراعًا حول الهيمنة. 

من هذا المنطلق يكون الارتكاز التحليلي على ضروب محددة في التغير الاجتماعي من ضروب الخطاب ذوات تأثير في النظام المجتمعي للخطاب، ومآل هذه الضروب يعود إلى التغير الاجتماعي داخل هذه الضروب وكيفية تحقق الأبنية الاجتماعية، أما نوع التغير الذي يشير إليه التناول فإنه يتسم بالفردية والذاتية والهوية الاجتماعية والجماعية كذلك، ويتحدد الإطار الاجتماعي لشكل الخطاب في الاتجاهات الاجتماعية لتنامي الصراع المتصاعد، ولهذه الضروب تأثير واسع متغلغل في نظم الخطاب، ومن شأنها التركيز على نظم معينة حتى يتسنى تحديد أنساق محددة داخل العمليات المجتمعية المركبة للتغير الخطابي.

ونقف على مستوى التفاعل الاجتماعي لنموذج تحليلي لنص من يوميات مطلقة لهيفاء بيطار باعتبار النص عنصرًا من عناصر عمليات اجتماعية تجرى على مستويات التنظيم الاجتماعي؛ وهي: المستوى الموقفي ومستوى المؤسسة الاجتماعية ومستوى المجتمع، بواسطة أنظمة خطابية لمقابلة شخصية بين الذات الناطقة التي تركها زوجها، وحكمت المحكمة بالفصل بينهما لوقت غير معلوم، وبين صاحب السيادة/المطران الذي أصدر الحكم بالهجر، وقت استدعائه لها بعد مدة زمنية طويلة وصلت إلى أربع سنوات، وإبلاغها أن الزوج كان قد زاره، وقد أبدى ندمه، ويريد أن يبدأ حياة جديدة معها، وفي عدة مقاطع خطابية تتحدد سمات اتجاه حركة الخطاب التي شكلتها مظاهر القوة والضعف والخوف والتحدي، وتبدي الذات سخريتها، وقد واجهتها آلام نفسية وصعوبات كثيرة، تقول ثائرة غاضبة معلنة رفضها:

[الجزء الأول من الخطاب لم يذكر]

«ورددت بفتور: آسفة يا سيدي، لقد انتهى هذا الإنسان من نفسي.

ولكن يا ابنتي فكري بالطفلة الصغيرة، فكري أنه يمكن أن يأخذها من أحضانك ذات يوم.

وضحكت وأنا أضع رجلًا فوق رجل وأجيب:

المشكلة يا سيدي، أنني لم أعد أخاف، لقد تحررت من الخوف، وما أدراني قد يموت وقد أموت أنا، قبل أن يتمكن من تخليصي الصغيرة، ثم إن طفلتي حتى ذلك التاريخ تكون قد كبرت وغدت صبية وبإمكانها أن تفرض إرادتها.

وتأملني بعين ناقدة لا تحمل أي رضى عني، خاصة بعد أن بدأت أهز قدمي بلا مبالاة.

وقال: أرى أنك تغيرت كثيرًا يا ابنتي؟

ورددت بسخرية: أوه يا سيدي الإنسان يتغير دومًا.

قال محاولًا إثارة الهلع في نفسي: أخشى ألا يكون هذا التغيير لصالحك.

ذلك ما ستبيِّنه الأيام يا صاحب السيادة.

كنت أتوقع أن تكون سنوات الهجر لصالحك.

وقاطعته: سنوات الهجر، أنت تقول سنوات، أنت ببساطة شديدة تجلس وراء مكتبك وتطلق حكم الهجر لزوجين في قمة نضوجهما وشبابهما، تقول لهما اهجرا بعضكما، وترميهما في فم الغول كما يقال، سنوات وسنوات، هلا تساءلت كيف سيعيش هذان الزوجان، أليس هذا وضعًا مثاليًّا للانحراف؟

وكأنه أجفل من كلمة انحراف فقال: أعوذ بالله، ما بك يا ابنتي تتحدثين بهذه العصبية.

تخيلت أني أحكي لصاحب السيادة أنني عشقت رجلًا، وأتخيل دهشته وردود فعله، فأنا لا أزال على ذمة رجل، لا أزال أحمل بجدارة لقب زوجة، لي زوج وهمي تفصلني عنه أربع سنوات، لكنه زوجي وأنا زوجته، شيء مضحك، مقرف حقًّا

يصمت ولا يجيب....

فأقوم من مكاني وأدور أمامه وأقول: أؤكد لك يا سيدي أن زوجي لم يكن يمانع طول حياته أن أعيش لا معلقة ولا مطلقة، مجرد زوجة مسحوقة أربي ابنتي أفضل تربية، رفضتُ النفقة وبذلك ارتاح من أي عبء مادي سيقدمه لي وللصغيرة، امرأة كالوقف، ألا يقال هكذا، ولكنه حين شمَّ رائحة الحب، حين أحسَّ أن قلبي بدأ يخفق، جنّ جنونه، ليس لأنه يحبني، لا، أرجوك لا تسيء الظن يا سيدي، بل لأنه أدرك بعمق أني لم أعد ملكه، أني تحررت منه، والحرية تبدأ من هنا، وأشرت إلى رأسي، ثم من هنا، وأشرت إلى قلبي».

[الجزء الأخير من الحكي السير ذاتي لم يذكر]

يرتكز التحليل في الخطاب/النص على أنه عنصر من عناصر عمليات بناء اجتماعي تجري على مستويات ثلاثة؛ الموقفي والمؤسسي والمجتمعي، ويخضع أيديولوجيًّا لسيطرة علاقات السلطة المؤسسية والصراع حول الذات الناطقة، مثلما يتحكم فيها تمامًا على هذه المستويات أيضًا، وينقسم التحليل النقدي للخطاب إلى جزأين، يتفق كل منهما مع أحد هذه المستويات للاستكشاف الاجتماعي للحاضر، بتحديد السمات المميزة للنظام المعاصر للخطاب واتجاه حركته.

الجزء الأول يجيب عنه التحليل ويجيب عن السؤال التالي: ما العمليات المؤسسية التي ينتمي إليها هذا الخطاب، وكيف تحدد الأيديولوجيا صورته وكيف يحدد صورة الأيديولوجيا؟

ويقدم الإجراء التطبيقي مستوى بعينه من مستويات التحليل النقدي للخطاب وتحليل اللغة اجتماعيًّا، ويسفر التحليل السياقي في النص إلى قيم أخرى نوعية ذات ارتباطات وتناقضات أيديولوجية أخرى تتعلق بالمرحلة النصية؛ وهي تعبيرات منوعة تتميز بظهور سافر، فهي تمثل قوائم ارتباط القيمة العلائقية بالضمير للإيحاء بدلالة معينة، وقوائم العلائقية المفرداتية لتحديد سمات تناوب أدوار الحديث داخل المقابلة بين شخصين ذوي وعي وفهم بتنظيمها، وقوائم انتقاء أزمنة محددة، وقوائم النفي، وقوائم لنمط النوعيات السائدة في النص للمعنى العلائقي للوجوب أو الاحتمال الظاهر في النص، ثم قوائم الصلابة وتخص صلابة وعزم الذات الناطقة، وإلى نوع آخر من القيم التفسيرية التي لا تنفصل عن المجتمع والتي تربط السياق الخطابي مجتمعيًّا، ويختص فيها النص بشكل جزئي ببناء عملية الإنتاج حتى يتبين كيف تنشئ الذات الخطأ، وبناء العمليات التفسيرية التي تجمع ضروب خطاب توافقية مجددة غير تقليدية بالاستناد إلى الأدلة النصية ذاتها، وهذا يسهم في تضمن السؤال السابق لخمسة أسئلة أخرى أساسية تتوزع داخله وتحدد شكل إجابته في ثنايا هذه المرحلة هي:

الأول: ما القيم العلائقية للمعالم النصية؟ وهل توجد تناقضات في القيم العلائقية يمكن أن يشير إليها ترابط جديد بين أنماط الخطاب؟

والثاني: ما القيم الخاصة بالمعالم النصية من حيث موقع الذات لمنتج النص؟ هل توجد تناقضات قد تشير إلى ترابط جديد بين أنماط الخطاب؟

والثالث: ما القيم التي تتسم بها المعالم النصية من حيث موقع الذات للقوة المهيمنة؟ هل توجد تناقضات تشير إلى إعادة بناء جديدة لأنماط الخطاب؟ 

والرابع: ما الخطأ الاجتماعي الذي شكّل الخطاب اجتماعيًّا؟ وما أسباب عرضها للخطأ؟ وما الصور الجديدة للجمع بين أنماط الخطاب التي تولدها في محاولة لحلها؟ 

أما الخامس: ماذا في معالم الخطاب من آثار الصراع بين الذات وبين جهة تنفيذ الحكم؟

يتداخل الوعاء المؤسسي في هذا الخطاب بين مؤسسة القضاء التي تقضي بقضايا الأحوال الاجتماعية/الشخصية وتقوم بالتنفيذ فيها هيئة المحاكم والدعاوى، وبالأخص محكمة البداية والهجر، ومحكمة التمييز، ثم محكمة الاستئناف، وغرفة المحاكم الصغيرة التي تضم الكهنة الثلاثة وعلى رأسهم المطران/صاحب السيادة، وبين مؤسسة الدير التي يرأسها المطران، جهة النصح والإرشاد الديني، وهي جهة اللوم التنفيذية المباشرة داخل البناء الخطابي بعد مؤسسة القضاء التي لم يُذكر لها تفاعلًا مباشرًا في النص، وتتحدد بعدها جهة أخرى في اللوم وهو الزوج الوهمي، ويلاحظ المكانة المزدوجة المؤسسية للدير التي تجمع بين السلطة المؤسسة للحكم والسلطة المنفذة له في الوقت ذاته، وقد سار تحليل الخطاب في هذا المسار ملتزمًا بالحدود المؤسسية لطبيعة المؤسسة/الهيئة العامة له، وعلى الرغم من ثورة الذات على إصدار هذه القوانين، فإنها قد فرضت على نفسها الالتزام بالتقيد بهذين الوعاءين المؤسسين حيث ارتضت الحكم؛ وقد دار الصراع من داخل مكتب صاحب السيادة، وفي شأن الحدث الخاص، بما هو كان وبما سيكون، وارتكزت الذات على جوانب الخطاب التي تقوم بالتشكيل الأيديولوجي له وعلى مجموعة قوائم العلائق النصية والتناقضات في مجموعة الأسئلة السابقة.

يتحدد في النص نمط الخطاب من «زاوية المشاركين» في تناوب/ تبادل أدوار مقابلة شخصية بين شخصي الذات (شخصية عادية) والمطران (شخصية عامة)، ويتمتع المطران بمكانة مزدوجة تجمع بين جهة حكم سلطوي واجتماعي، ومن العلاقات الأخرى ذات العلاقة بالمشاركين أن الذات الناطقة تخاطب جهة التنفيذ المسئولة القائمة بالمقابلة والمسئولة عن تحديد نمط الخطاب، وهو رجل، ينوب عن قطاع كبير يتمتع بالتنوع الاجتماعي بين النساء والرجال، أما من حيث «نوع العلاقات» فإن مواقع الذوات للمشاركيْن تحددت بين 1-متحدث ومستمع طبقًا لمواقع الكلام والاستماع المرتبط بالخطاب الموقفي، 2-مَن يُجري المقابلة، ومن تُجرى معه المقابلة، ويتحدد معه نوع الخطاب والمقاطعة وطريقة الإصغاء والتعليق والإضافة والاقتضاب أحيانًا، وتحددت المكانة المؤسسية المزدوجة أيضًا بين 3-مجموعتين من الهويات المنسوبة إلى المشاركين وفق المؤسستين، الأولى تنتمي إلى السلطة السلطوية والاجتماعية والجهات القضائية التنفيذية الأخرى وتضم المطران، والأخرى تنتمي إلى المجتمع وأفراده، وتضم المرأة عامة والذات الناطقة بصفة خاصة، ويحدد الخطاب الغرض العام من النمط الخطابي في المقابلة هو إتاحة الفرصة لعرض خطاب جديد مؤسسي ينبع من اختلاف الأغراض والموضوعات، وتلتزم الذات باعتبارها شخصية عامة يجب أن تقبل تنفيذ الحكم، وأن تعتبر أن الوعاء المؤسسي للخطاب هو جهة السلطة، وأن الدير وسيلة سياسية، وأن الحكم بعده لكل امرأة في مثل حالتها، فتخنع للحكم الذي لا تعترف به وإن كان مفهومًا ثم تقابله بالثورة، ويؤدي هذا الغرض بالذات إلى أن تتخلى عن ذاتها في الوقت الذي تحتفظ به لذاتها؛ بل تبني صورة لنفسها، وصورة للمرأة، وصورة للعلاقة بينها وبين جهة الحكم تتفق مع غرضها الأيديولوجي وفق آثار صراع توافقية تجسد افتراضات تناقضية معينة عن العلاقات بين السلطوية، وصورة بينها وبين الرجل، مع وعيها أن مَن يحافظ على السلطة لا يزعم التضامن وهو ما يجعل تحقيق هذا المزيج إشكالية في حد ذاتها. 

أما العمليات المؤسسية التي ينتمي إليها هذا الخطاب فهي الصراع الداخلي والخارجي الخطابي للذات والثورة على القوانين الاجتماعية القائمة؛ بهدف التحرر منها وتغييرها، ومحاسبة مَن يقوم عليها من خلال عدة ملامح وضحها التحليل، في سبيل رؤية توافقية متطورة لخطاب معاصر جديد، بَنَتْهُ الذات من الإحساس بالظلم من قوة وسلطة هذه القوانين التي تدَّعي أنها تحميها بذلك، وقد دعا الخطاب إلى قوة التجديد والاستقلالية والتغيير من خلال قوة الذات نفسها وتحديها لهذه القوانين وللجهات المؤسسية؛ على الرغم من التقيد بها في الوقت ذاته وعدم قبولها التهديد الذي وجهه إليها المطران. 

يتشكل البناء الاجتماعي لنظام الخطاب من عدة ملامح للصراع تُحدث عملية التغيير الممثلة في رفض الذات التي تجمع بين القوة والثبات واليأس في الوقت ذاته للقوانين الظالمة، وتجسَّد الرفض في عدة ملامح يشكل أولها الفتور في قولها: (ورددت بفتور) فقد أخذت قراراها بإنهاء العلاقة وخروج هذا الإنسان من نفسها، ويلاحظ أنها لم تنعته بلقب الزوج، فقد صار كأي إنسان عادي لا يمثل لها علاقة مباشرة، ويعتمد تنظيم الخطاب على سلسلة من الجمل التي يتخللها أحيانًا أسئلة جاءت في شكل طلب خبري أحيانًا، فيطلب منها أن تفكر لأجل ابنتها حتى لا تُنتزع منها ذات يوم بقوة القوانين، وترسم السخرية ملمحًا ثانيًا بواسطة الضحك (وضحكتُ) وتتخذ من (لغة الجسد) صورة للتحدي والقوة، فتضع رجلًا فوق رجل وقت إجابتها، وتخبره باستخدام ضمير المتكلم (أنا) بأن مشكلتها تمثلت في أنها قد تحررت من الخوف فلم تعد تخاف، وتقدم لصاحب السيادة نتيجتين أيديولوجيتين تقومان على المنطق السليم لتبرر له اقتناعها بعدم خوفها الأولى تقول فيها: «وما أدراني قد يموت وقد أموت أنا، قبل أن يتمكن من تخليصي الصغيرة»، والأخرى تبرهن فيها على فرضية أن الصغيرة حتى ذلك التاريخ سوف تكبر وتصبح صبية يمكنها اتخاذ قرارها ويمكن أن تفرض إرادتها، وتشكل اللامبالاة ملمحًا آخر أغضب صاحب السيادة منها، خاصة بعد أن أصبحت تهز قدمها بلا مبالاة، وتوضح الجمل الخبرية والاستفهامية شكلًا آخر لعدة تغيرات أخرى مسَّت الذات الناطقة والتي أثرت بدورها على طبيعة الخطاب استشعرها المطران/السائل فيسألها: أرى أنك تغيرتي كثيرًا يا ابنتي؟ 

يتضح دور هذه الملامح إذن التي تتنوع بين مظاهر الثبات والسخرية واللامبالاة في تشكيل عملية البناء الاجتماعي وفي إحداث عملية التغير الاجتماعي أيضًا، فما زالت تتصاعد هذه الملامح حتى أُحدثت عمليات تغيير أوسع؛ حيث تملكتها السخرية واللامبالاة من جديد عن وعي وفهم واضحين في إجاباتها التي تتسم بالهدوء والنفس الطويل: «أوه يا سيدي الإنسان يتغير دومًا»، ويغدو النص في ذهاب ومجيء بينهما وتشتد عملية الصراع تصاعديًّا فيستفزها محاولًا إثارة الهلع والخوف بداخلها بل التهديد قائلًا: «أخشى ألا يكون هذا التغيير لصالحك»، لكنها تظل على موقفها الثابت القوي غير الخائف منبئًا عن خطاب قوي صلب فتجيب بثقة: «ذلك ما ستبينه الأيام يا صاحب السيادة» وتبتعد إجاباتها بمسار الخطاب عن الوجهة التي يبدو أن المطران يريد الوصول إليها وكأنه إعلان لنوع من التحدي بينهما، ويوشك الصراع بينهما على إنهاء رسم طبيعة الموقف الخطابي في توجيه اللوم إليها، وبواسطة ملمح استفزاز آخر يصوغه المطران هذه المرة قائلًا: «كنت أتوقع أن تكون سنوات الهجر لصالحك»؛ ليسهم هذا الاستفزاز والتوتر في تغيير نمط الخطاب من الهدوء والثقة والتحدي إلى تفجير ثورتها وكأنها كانت تفتعل هدوءًا مزيفًا في إجاباتها المقتضبة السابقة، فتقاطعه بحدة وهي تملك المقاطعة موجهة إليه اتهامًا وعصبية بسوء الحكم فترفض أن يكمل حديثه وتتساءل وتحاسبه بأسلوب مهذب على ما فيه من حزم يتجلى في الصيغ التعبيرية لديها قائلة: «سنوات الهجر، أنت تقول سنوات»، وترى أنها محاولة لازمة للتحكم أثناء تناوب الأدوار في الحديث، ولا تكتفي بذلك لكنها توجِّه إليه دوره الوظيفي في أنه لا يتعدى الدور في إطلاق حكم الهجر بين الزوجين، وهو اتهام صريح للمجتمع والقوانين بظلم المرأة تمثلها مؤسسة الدير في شخص المطران فتتهمه بأنه لا يعلم شيئًا عن تأثير سنوات الهجر التي يطلقها بين الزوجين سنوات عدة دون أن يفكر في عواقبها، تقول: «أنت ببساطة شديدة تجلس ورا مكتبك، وتطلق حكم الهجر لزوجين في قمة نضوجهما وشبابهما، تقول لهما اهجرا بعضكما، وترميهما في فم الغول كما يقال: سنوات وسنوات»، ويتغير نمط الخطاب وتتفاقم ثورتها انتقامًا لأنوثتها فتقوم بسيادة الموقف وتقوم بدور السائل وتسأله: «هلا تساءلت كيف سيعيش هذان الزوجان؟ أليس هذا وضعًا مثاليًا للانحراف؟» وتوحي هذه المعالم العلائقية الظاهرة والضمائر والأسئلة بارتباط جديد بين أنماط الخطاب، ويُعدُّ مثل هذا التناوب أو المقابلة بينهما بمنزلة تعبير عن صلابة الذات وقوتها شخصيتها وعزمها ويؤكد ذلك عدة جمل وكلمات واستفهامات مثل: «وقاطعته، أنت ببساطة شديدة تجلس وراء مكتبك وتطلق حكم الهجر لزوجين في قمة نضوجهما وشبابهما.. وترميهما في فم الغول كما يقال... هلا تساءلت كيف سيعيش هذان الزوجان، أليس هذا وضعًا مثاليًّا للانحراف؟ فأقوم من مكاني وأدور أمامه... إلخ»، وهي تعبيرات تعني اعتزام الذات على المقاطعة، والمحاسبة، وتصحيح ما أساء فهمه تصحيحًا يتسم بالصرامة، وإطلاق حكم منها عليه بالتساؤلات الواضحة.

وتتخذ من تخيلاتها اعترافًا قويًّا وجريئًا حيث تستند إلى ملمح خياليٍّ آخر يحمل مفاجأة ترسم بها شكلًا آخر من أشكال الصراع الاجتماعي، فتفاجئ المطران جهة لومها الأولى فيما يؤديه تطبيق القوانين الظالمة التي تؤدي بالمرأة عامة والذات خاصة إلى نتيجة عكسية، فقد تصل بها إلى شكل من أشكال الانحراف كأن تقع في حب رجل آخر مثلًا نتيجة للهجر المديد تقول: «تخيلت أني أحكي لصاحب السيادة أنني عشقت رجلًا، وأتخيل دهشته وردود فعله، فأنا لا أزال على ذمة رجل، لا أزال أحمل بجدارة لقب زوجة، لي زوج وهمي تفصلني عنه أربع سنوات، لكنه زوجي وأنا زوجته، شيء مضحك، مقرف حقًّا»، فشكلت باعترافها المتخيل موقفًا جديدًا للآخر وهي تحمِّل المطران الجهة المؤسسية المقيدة للحكم سبب انحرافها، وتحمِّل سلطة وسيطرة القوانين الجهة الثانية والتي لم تذكرها صراحة اللوم أيضًا، أما الزوج فيمثل جهة لوم ثالثة وأخيرة في طبيعة هذا البناء، الزوج صاحب السيادة والفصل في الأربع سنوات، وبلغة حزينة وكأنها تعيد ذلك على مسامعها بأنها لا تزال على ذمة رجل، وأين تذهب من واقعها وهي لا تزال تحمل بجدارة لقب زوجة وهي تعلم ذلك، وهو نفسه الزوج الوهمي الحاضر الغائب، الذي لا يسجل تاريخها عنه سوى أنها زوجته وهو زوجها وهو ما يسبَّب لها مدعاة للضحك والقرف معًا، وتشغل الذات موقعًا سلطويًّا فيما يتعلق بما يجب أن تفعله الجهة المنفذة للحكم التي تقوم بمحاسبتها وما يمثل الواقع وذلك بتتعدد النوعية التعبيرية الخاصة بالحقيقة القاطعة التي يعبر عنها الزمن المضارع في (وأنا أضع رجلًا فوق رجل وأجيب، لم أعد أخاف، تحررت، تفرض، أهز قدمي، يتغير، فأقوم، أؤكد، أربي)، وكل فعل من هذه الأفعال يحمل معنىً نوعيًّا تعبيريًّا سلطويًّا، ويجسد تشكيلًا تعبيريًّا مختلفًا عن الآخر؛ ليسهم في دلالة معينة ممثلة لواقع راهن ولإحساس مفروض، مع فارق أنها استخدمت معاني أخرى نوعية غير سلطوية مثل (تخيلت)، و(أتخيل)، لتوزيع دلالات معان عديدة تدل على التوهان وعدم التأكيد أو ربما الخوف الذي يتناقض بوضوح مع نوعيات تعبيرية أخرى أكثر هيمنة، فالذات هنا تتحول من الحقيقة إلى الخيال، الخيال الذي يدعوها إلى الخوف من الإفصاح عن الحقيقة المُرة التي عاشتها، وهو نوع من خبرة مجتمعية تشمل الذات الأنثوية إلى الخوف، فمهما وصلت قوتها لا تزال تخشى المجتمع، لينبئ النص عن أيديولوجية أخرى هي أنه مهما بلغت الذات من قوة فإنها تستند إلى نوع من التناقض بين النزعة السلطوية وإنكار الذات أو الخوف وإن كان هنا بنسبة قليلة نتيجة لجبر القوانين الظالمة لها.

تتوزع عملية الصراع في تشكيل البناء الاجتماعي بين الثبات والقوة، وتأخذ الذات من لغة الجسد شكلًا آخر في التعبير عن رفضها للجهات المؤسسية الثلاث، وتتخذ من صمت المطران وسيلة لتنتصر فيها للذات وللمرأة ولأنوثتها ولصرخاتها، وتتمثل بشكل أقوى للغة الجسد، فتعطي لنفسها الحق في السيطرة على الموقف وعلى المقابلة وعلاقاتها، وهي لديها القدرة على الوقوف أمامه وعرض الأمر عليه دون أن تخشى من اعتراضه، وفي المقابل هي تعلم أن المطران لا يبدي أي اعتراض، إذ إن إقدامها في ذاته يُفترض فيه القدرة على تنفيذها وفرضها عليه، فتقوم من مكانها وتدور حوله وتشرح له بلغة تأكيدية حال زوجها من أنه لا يمانع أن يتركها على حالها كالمعلقة إلى آخر عمرها، وتوضح له طبيعة تفكيره بواسطة أنظمة خطابية تحليلية واقعية تفسر سبب ندمه، ورغبته في الرجوع لعش الزوجية، فقد جنّ جنونه وتغيَّر عندما اشتم رائحتها فقد فاحت منها رائحة الحرية، الحب، خفقان القلب، وبهذه الروائح الثلاث رفضت الذات تثبيت خطاب يدعو إلى الاستسلام والحزن، واستعانت بأنظمة خطابية أخرى تدعو إلى نظام خطاب معاصر قوي يدعو إلى التغيير والتجديد بذلت جهدًا كبيرًا في تغييره لتؤسس لعملية بناء اجتماعي جديدة تقوم على المنطق السليم تبدأ من عقلها ورأسها ثم من قلبها، فهي ذاتٌ تتمتع بالاستقلالية في الفكر وتدافع عن حريتها، وما زالت صفة لغة الجسد تتخذ موقفًا واقعيًّا للخطاب، يبدأ من الأعلى صوتًا للقوة من العقل إلى القلب على الترتيب، وعلى الرغم من وجود السلطة الأعلى بين المطران والذات فإن المساواة فيها تتوزع بينهما أيضًا، وفي هذا الجانب يكون التركيز على جوانب الخطاب التي تقوم بالتشكيل الأيديولوجي.

ترسَّخ الترابط والتوافق الجديد إذن بين القوى المهيمنة من ضروب إعادة بناء خطاب الذات من خلال محاولات تشكّل الذات لموقع جديد داخل السياق الاجتماعي، والمحاولات الخاصة التي تبذلها الذات واضحة في النص، وإن كانت تتطلب الإحالة إلى معالم غير ممثلة كالاعتماد على حركات جسدها المتنوعة وإشاراتها الحركية وجلستها الراسخة القوية ونبرات صوتها وإيقاعها الرنان القوي، ولغتها، وأسلوبها، وبلا شك خضع الخطاب لنوع قوي من التفاعل المباشر من خلال المقابلة الشخصية، فعادة ما تُجسد المقابلات الشخصية تفاعلًا مباشرًا (وجهًا لوجه) بين شخصين، بحيث يتناوبان دور السائل والمجيب (وفقًا لما يحدده الأول) وقد تبادلا دوري المتحدث والمخاطب، ومن خلال تحديد ضروب معينة بواسطة دلالات علائقية وضعت الذات نفسها مع جهة الإرشاد، ونشأ موقع الذات بصورة مباشرة وواضحة وقوية من خلال التجسيد الفعلي لهما وهذا يجسِّد نوعًا قويًّا للمقابلة.

أسهم الخطاب بهذا البناء الاجتماعي الموقفي والمؤسسي في بناء توافق جديد لخطاب الذات الخاص بالقوانين الاجتماعية التي تراها ظالمة لحالها، وكان عاملًا مهمًا في عملية الصراع الداخلية والخارجية، وكان في أحيان أخرى مثالًا مقنعًا لطاقة الخطاب على التأثير في العلاقات المتعددة للخطاب التي تتوزع بين تناقض للقوة والضعف معًا، ففي موقع الذات تتعدد التناقضات أثناء عملية الافتراض الكامنة في نمط الخطاب والتي تقول إنها قوية وبين الحقيقة الواضحة أنها أمرأة يتملكها الضعف الذي أسفر عنه القوة، وبين صورة الذات التي ترغب في إبرازها في السياق لأسباب أيديولوجية وبين وضعها الكائن، فجاء الخطاب ليسفر عن ثمار الصراع المتصاعدة، من خلال تشكيله لأيديوجيات معينة وآثاره التي تتحكم فيه، تقوم على المنطق السليم، والافتراضات المسبقة.

يتضمن خطاب الذات في النص إذن حقيقة للوضع القائم الذي تحملت جهده وطاقته المرأة عمومًا والذات بمفردها خاصة، فهو يشكل جانبًا من جوانب إعادة البناء الاجتماعي الأعم لوصف الصراع بين الذات/المرأة وبين مكتب صاحب السيادة/باعتباره المشكّل الأول والأساسي لموقع مؤسسيّ بعينه، فالعلاقة بينهما ذات ارتباط أيديولوجي خاص في العلاقات الخالية من التضامن، فالهيئة المؤسسية هنا لا تُعرب عن أي تضامن، والتأثير الأيديولوجي داخل النص يُعرب عن طاقة وقدرة إبداعية خاصة للذات جسّدتها صراع الذات في التحدي وفي الخوف وعدم الخوف أيضًا وهو ملمح يجمع تناقضًا واضحًا وفي إدارتها للخطاب وطرح الأسئلة، فجمع النص بين عدة تناقضات لمجموعة من الخصائص التقليدية المحافظة للخطاب التي تخضع لها الذات، وبين خصائص أخرى شغلتها الذات القيادية سيطرت بها على الخطاب بهدف التغيير؛ حيث إنها ثارت على القديم النمطي منه، ولم تدعو إلى تثبيته؛ بل دعت إلى تغييره بأسلوب حادٍ صارم وقوي يميز نمط خطاب المقابلة، لكنه يناقض أنوثتها الناعمة الرقيقة، وما أسفر عنه الخطاب أن الذات قد نجحت إلى حد كبير في إنشاء قاعدة اجتماعية للمرأة تدعو إلى التغيير والتطوير من خلال الدعوة إلى الحرية وإعطاء العقل فرصة للعمل وهذا عامل مهم من ثمار الصراع. 

ينتقل التحليل النصي بعد ذلك من المستوى المؤسسي إلى المستوى المجتمعي ويجيب عن السؤال التالي:

ما العمليات المجتمعية التي ينتمي إليها هذا الخطاب؟ وكيف تحدد الأيديولوجيات صورته وكيف يحدد صورة الأيديولوجيا؟

يُعدُّ الخطاب جزءًا من عمليتين مجتمعيتين؛ الأولى هي الصراع الذاتي بين القوانين الاجتماعية وقانون المحكمة وتكون جهة تنفيذها هو المطران الذي يجلس وراء مكتبه ويطلق الحكم بالهجر بين زوجين دون أن يعرف أبعاد ذلك بحجة حمايتهما، والأخرى هي الصراع بين المرأة والرجل، والصراع بين المرأة وذاتها؛ وهنا لا يكون التركيز على جوانب الخطاب التي تقوم بتشكيل الجانب الجانب الأيديولوجي كما سبق في تناول الجانب المؤسسي، بل سوف يرتكز أيضًا على أسلوب تفاعل هذه الجوانب مع العناصر التي تخضع للتحكم الأيديولوجي فيه، وهذا يوضح طبيعة العلاقة الجدلية بين التحكم الاجتماعي في الذات وقدرة الذات وطاقتها الإبداعية التي شكلها النص كما نقلت صورته السؤال الأول.

أما عن العلاقات الاجتماعية فيلاحظ وجود كتلتين مهيمنتين على الذات؛ أولهما: هيمنة قوة السلطة، وتجسدها سلطة القوانين الاجتماعية في المجتمع، ثم هيمنة قوة سلطة الرجل على المرأة بصفة عامة والذات بصفة خاصة، وهاتان الكتلتان تمارسان الهيمنة الاجتماعية عليها، ومن ثم تُوصف العلاقة بينهما بالتحكم والسيطرة دون أدنى قدر من السعي منهما في تحسين أوضاعها أو التضامن معها؛ بل على العكس تستشعر الذات درجات التحكم معهما في تحديد العلاقات الاجتماعية التي أضرت بها، وهما كتلتان أيضًا متساويتان في فرض قوة السلطة لا تطغى إحداهما على الأخرى، فقوة الرجل الأولى التي رفضت الزوجة بكل تفاصيلها وأرست دعائم للحكم ولشكل الهجر تحمل نفس قوة كتلة السلطة المؤسسية الثانية جهة تقديم النصح والإرشاد والهداية، وتقديم الدعائم المؤسسية والموقفية والمجتمعية لها، فالمطران يبرر تفعيل الهجر بينهما، ثم يدعوها لأن تخنع له بعد ذلك بالإرادة الأولى وقت أن طلب الزوج تحديد ذلك، ووقت أن رجع عن قراراته، وكأنهما يريدان من خلال ضروب التفاوت الحقيقية للخطاب أن يشكلا المرأة من مجموعة تنفيذية من الأوامر والطاعة لتصبح ذاتًا ضعيفة، وهو ما أدى بالنتيجة الافتراضية السابقة لرفضها للضعف والعناد حتى تحققت سمات خطاب معاصر جديد شكلته بواسطة فكر أيديولوجي قوي ومنطق سليم، حتى فرضت استقلاليتها بأنها غير تقليدية، ترفض هذا وذاك، فحالة الهوية الاجتماعية التي ترأستها الذات تختلف عن حالة المرأة الضعيفة المستسلمة، فهي لا تتضمن استسلامًا لأي قوة من القوى، وهذا أسهم في خلق إبداع أيديولوجي يخضع للاحتواء داخل معايير قوة السلطة التي تعمل الكتلتان في نطاقها، فهو يؤيد التزامها بالتزامات معينة نابعة من ذاتها، تؤيد وتدعم بها مؤسسة استقرار البيت، والأسرة، والابنة الصغيرة، والزوج، باعتبارها رمزًا اجتماعيًّا، وهي صور ضمن صور أخرى يفرضها المعنى المضمر كالاستقرار، ودعم الحب وغيرهما. 

فجاء خطاب الذات مشتملًا على علاقة احتواء بين الكتلتين المسيطرتين اجتماعيًّا، وبين مجموعة العوامل الأيديولوجية والمنطق السليم والافتراضات المنطقية في النص وهي نتيجة طبيعية للمجموعة الأولى نشأت بداخلها، مما ساعد على خلق طاقة إبداعية أيديولوجية خلاقة مصاحبة للنص تربط بين الإبداع الفردي وعوامل السيطرة الاجتماعية، فلا تستقل هذه الطاقة الإبداعية في النص عن المجتمع لا سيما المجتمع السلطوي، فدائمًا ما توجد ظروف اجتماعية معينة تدعم الخطاب وتمنحه الفاعلية وتفرض القيود عليه.

وجاء أيضًا مشتملًا على مجموعة من التناقضات في الافتراضات الكامنة في نمط الخطاب ويقع التناقض في نمط الخطاب في الافتراضات الكامنة كثيرًا من هذه المعايير الكامنة التي تجمع بين القوة والضعف، بين التقليدية في إرادتها المحافظة على الأسرة وعلى صغيرتها وبين المعاصرة في طلب الحرية، بين الرفض والقبول، وبين الصرامة والأنوثة، وقد أسهم هذا التناقض في فرض إبداع على استراتيجية الخطاب تهدف إلى الجمع بين عناصر معينة محافظة وجديدة تترتب على نوع معين من العلاقات وعن موقع الذات في التقليدية التي تتسبب في إعادة بناء جديدة لخطاب الذات.

تابع مواقعنا