الثلاثاء 30 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

هليكوبتر الأموال والأزمة المصرية

الجمعة 16/فبراير/2024 - 11:43 ص

حينما تحدثت في مقالي الأخير وش سلندر!، عن إشكالية الإنفاق التوسعي في الاقتصاد المصري، وتجاوز حدود اقتراض الحكومة من البنك المركزي، جاءتني عدة تساؤلات عن هذا الأمر، وبالأخص عن ظاهرة "تسييل الديون"، لذا لزم التأصيل لفكرة التيسير الكمي quantitative easing، ومتحور آخر منها له أثر شديد على الوضع ويعتبر سبب جذري في حالة التضخم والغلاء الحالية.


يُعرف هذا المتحور بـ هليكوبتر الأموال - Helicopter money"، وهو تعبير للخبير الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل ميلتون فريدمان، يشير لنوع من التحفيز النقدي الذي يضخ الأموال في الاقتصاد كما لو تم إلقاؤها من طائرة هليكوبتر من خلال زيادة الإنفاق أو التخفيضات الضريبية أو زيادة المعروض النقدي.

ويشير انسجار بيلكه أستاذ الاقتصاد الكلي في جامعة دويسبورج-إيسن، إلى 3 أنواع مختلفة لأموال الهليكوبتر، أولها حين يقوم البنك المركزي بطباعة الأموال، وتقوم الحكومة بتوزيعها، والثاني يحدث حين يقوم البنك المركزي بتحويل الأموال إلى القطاع الخاص، أما الثالث فيأتي حين يقوم البنك المركزي بطبع الأموال وتستثمرها الحكومة.

في مصر، يجري استخدام النوع الثالث بشكل مكثف عن طريق آليات التمويل المباشر بما في ذلك التسييل الدائم للعجز المالي أو ما يعرف بالـ debt monetization، أي التمويل النقدي عن طريق اقتراض الحكومة بشكل مباشر من البنك المركزي لتمويل الإنفاق العام بدلًا من الآليات المعهودة من بيع السندات أو زيادة الضرائب أو غيرها.

وفكرة "تسييل الديون" هي ممارسة من خلالها يقوم البنك المركزي باستخدام سلطاته القانونية لخلق الأموال لإقراضها للحكومة من خلال توفير التمويل بشكل مباشر عن طريق السحب على المكشوف غير المحدود للحكومة، مما يسمح لها بتجاوز سوق السندات السيادية واصدارته التقليدية، وهي قضية أثرتها حين بدأت تطل علينا للمرة الأولى في خضم الدورة الاقتصادية السابقة عام 2015 مستعينا بخبرات الخبير المالي المرموق مصطفى إسماعيل حسن.

ويبدو أن الوضع يزداد تعقيدا، فحسب بيانات المركزي في الربع الثالث من 2023، وصل قيمة اقتراض الحكومة من المركزي إلى 2 تريليون جنيه، في حين أن قانونه ينص على أن تمويل العجز بهذا الشكل لا يجب أن يتعدى 10% من متوسط إيرادات الخزانة العامة ويفرض سداده في عام واحد، ورغم ذلك فالمبلغ المقترض تقارب قيمته مرة ونصف قيمة إيراد الحكومة الضريبي كاملا للعام الحالي و20 ضعف المسموح طبق للقانون والذي ينص في المادة 47 أن تكون مدة هذا التمويل ثلاثة أشهر قابلة للتجديد لمدد أخرى مماثلة، ويجب أن يسدد بالكامل خلال اثنی عشر شهرًا.


وفي تقديري، فإن هذا التجاوز جاء كأثر مباشر للهيمنة المالية أو تصدر الإنفاق العام للمشهد، حيث باتت الحكومة هي المحرك الأكبر للاقتصاد وهو وضع غير مستدام، وهناك عدة أبحاث علمية هامة في هذا الأمر، منها ما طرحه الأكاديمي المصري الأستاذ الدكتور محمد سيد عابد في بحثه عن "رد فعل السياسة النقدية والتضخم في ظل الهيمنة المالية في مصر" والذي تناول اثر السياسات المالية على الاقتصاد من 1974 إلى 2018. 

حيث خلص "عابد" في بحثه إلى أن الهيمنة المالية متجذرة بعمق في الاقتصاد المصري على الرغم من التغير في طبيعتها، مؤكدا في نتائجه البحثية ان أعلى تأثير على المدى الطويل على التضخم قد نتج عن زيادة السحب على المكشوف للحكومة من البنك المركزي المصري كمقياس لهذه الهيمنة المالية.

كما قدم "عابد" توصياته في 4 نقاط هامة، أولها بالطبع ضرورة إعطاء الأولوية للتضخم باعتباره الهدف الأسمى، خاصة وأن إعطاء أولوية عالية لاستقرار سعر الصرف الأجنبي لم يمنع معدل التضخم من الارتفاع.

وجاءت توصيته الثانية بخفض صافي التمويل المقدم من البنك المركزي إلى الحكومة، بالاعتبار إلى التأثير الأقل نسبيًا لسعر الفائدة الرسمي على التضخم، ودور خفض التمويل في الحد من التضخم من الاعتماد بشكل رئيسي على السياسة النقدية التقييدية.

أما الثالثة، فقد وجهت البنك المركزي، بضرورة أن يسمح بمزيد من المرونة في سعر الصرف للمساعدة في امتصاص الصدمات الخارجية والحد من التعارضات مع استهداف التضخم، وأخيرا إزالة كافة أشكال الهيمنة المالية قبل استهداف التضخم.

أيضا هناك ما أشار إليه رئيس البنك المركزي الألماني السابق، ينس فايدمان، من أن هذا النوع من التصرفات النقدية التوسعية يسبب ارتباك كامل بين السياسة النقدية والسياسة المالية، ويتعارض مع استقلال البنك المركزي، فالسياسة النقدية في نظره ليست علاجًا سحريًا لكل داء ومن يعتمد على ذلك سوف يصاب بخيبة الأمل في نهاية المطاف.

ويوضح الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل بول كروجمان، أن العجز الذي يمول فعليا عن طريق التضخم يشكل عبئا على المجتمع بقدر ما تشكله الضرائب العادية، لأن التضخم يشكل نوعًا من الضريبة على الأفراد.

وعليه، فالانفاق الحكومي ليس بديلًا للإصلاحات الهيكلية الضرورية لحل مشاكل النمو في الدول الناشئة بشكل عام، وفي مصر فالوضع أشد، خاصة وأن الحكومة لديها توسع إنفاق يقابله دخل ضريبي وإيراد لا يكفي خططها من أصله، بما يدفعها إلى الاقتراض المُفرط وتحديدا من البنك المركزي وهو ما يرتب زيادة المعروض النقدي وعليه تنخفض قيمة العملة ويزداد التضخم.

أعلم أن مشكلة مصر الاقتصادية معقدة لا تكمن في الأزمة الحالية فقط، ولا يمكن حلها بتوفير عملة أجنبية أو حل مشكلة السيولة فحسب، لكنها مشكلة متأصلة في عقيدة اقتصادية تهدف للتوسع التنموي بشكل يتعدى إمكانياتها الحالية.

وعليه، فلا بديل عن إعادة تقييم التجربة الاقتصادية المصرية الحالية وتعديل مسارها طبقا لاليات الاقتصاد الراسخة والقائمة على الـ policy tradeoff أو سياسة البدائل المبنية على الظرف العالمي والمحلي والاعتبارات الاجتماعية.

حيث أن تدارك التضخم الحالي لا يمكن أن يتم بتسعيرات جبرية أو مبادرات سلعية لأنه مُتجذر في المسار الاقتصادي ذاته وعرض مزمن للنمط الاقتصادي المتبع، خاصة وأن الاسهاب في استخدام تلك الآليات الخشنة كحل أو افتراض أننا نمر بكبوة تستلزم فقط بعضا من التضحيات، هو افتراض مخالف لقوانين الاقتصاد المستقرة.

و ختاما.. علينا تدبر مشكلة السيولة الحالية بشكل عاجل مع المضي قدما في تحويل الاقتصاد القائم على التمويل النقدي والإنفاق الحكومي إلى إقتصاد تشغيلي مستدام تلعب الحكومة الدور التنظيمي فيه، على أن يكون للقطاع الخاص الجزء الأكبر منه.

تابع مواقعنا