السبت 27 أبريل 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

فرضية التخارج من الاقتصاد

الثلاثاء 26/مارس/2024 - 02:39 م

رغم أن جدلية «تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي» قد انتهت تقريبا في العالم كله إلا أنها لا تزال متأصلة في إدارة الدولة المصرية، دون أي اعتبار لتجارب دولية أظهرت أن الدول لا تصلح لإدارة نشاط اقتصادي بل على العكس فإن تدخلها قد يساهم في تعطل هذا النشاط، إن لم يكن تخريبه بالكامل.

وأبسط دليل على ذلك، تلك المتلازمات المستمرة عن فكرة تطوير الشركات ثم بعد سنوات بسيطة يتم تصفيتها، والتي كان آخر ضحايا هذه الدائرة هي شركة «راكتا للورق»، التي تم أعلن وزير قطاع الأعمال السابق هشام توفيق خطة تطويرها في مارس 2022 بتكلفة 200 مليون دولار، ثم في مارس الجاري تم إعلان تصفية الشركة بعد استمرار الخسائر وبعد ان فطن الوزير الحالي محمود عصمت انه لا طائل من استكمال نهج محكوم عليه بالفشل.

سبق هذه التجربة مشابهات كثيرة، منها تحديدا ما تم مع شركة القومية للإسمنت التي خاضت هي الأخرى رحلات تطوير واستشارات وإعادة هيكلة، بداية من أكتوبر 2012 حتى ديسمبر 2016، بإطلاق مشروع تطويرها بقيمة مليار و100 مليون جنيه «140 مليون دولار»، ثم في ديسمبر 2017 تم تشكيل لجنة عليا لإطلاق مشروع تطوير آخر وإعادة هيكلة، ليتم الإعلان في أكتوبر 2018 عن تصفيتها.

والأمثلة كثير في هذا الشأن لدرجة تكاد تربك أي محلل.. شركات وضعها ليس جيد تخطط الدولة لتطويرها وتصرف مليارات عليها ثم يتضح أن النتيجة ليست مثمرة فيتم التصفية، لنبدأ من جديد مع شركة أخرى على نفس النهج ومع هذا تصر الدولة على التمسك به بما يعد إهدارا لكل شيء -وقت ومجهود وتكلفة-، في حين البديل مضمون النتائج وعائده أربح للدولة.

أعلم أن هناك إرثا لفترة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، لا يزال مسيطر على عقلية إدارة الاقتصاد في الدولة، لكن حتى الفكر الذي استمد منه ناصر تجربته قد تراجع منذ عقود عن فكرة القطاع العام، فأحجمت كل الدول حتى الشيوعية منها على قيام الدولة نفسها بشركات قطاع عام، وتركت التصنيع والتجارة تماما للقطاع الخاص، حتى أن البعض منها بدأ يترك صناعة السلاح والمقاتلات والسفن الحربية أيضا.

الكل تفهم التجربة واتعظ مما واجهه بنفسه أو في تجارب مشابهة، لكن في وضعنا هناك شيء غير مفهوم من الإصرار كل مرة على نفس الآلية بل نُفاجأ بمراحل أشد من مستوى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، دون أي مبشرات بنجاح هذه التجربة في أي موضع، خاصة وأن الدولة ليست كيان هادف للربح بالطبيعة، لذا في ظل معطيات معتادة يسودها ضعف الحوكمة ومحدودية الخبرات الإدارية يتفشى الفساد والتراخي والإهمال بما يتسبب في النهاية بالفشل لا محال.

حتى عندما أعلنت الحكومة عن وثيقة ملكية الدولة، وأنها بدأت بيع حصص في 32 شركات مملوكة للدولة ووعدت بخصخصتها، من شركات البتروكيماويات إلى البنوك وغيرها، شهد التطبيق التضارب في كثير الأحيان، كما أن الوثيقة لا تزال تسمح للدولة بالعمل في القطاعات الرئيسية مثل الصحة والأدوية والزراعة والنفط والغاز والتأمين وغيرها.

ومن الناحية الأكاديمية، فمدرسة الكلاسيك الجدد في البداية كان ترى أن اقتصاد السوق يعاني من بعض الإخفاقات التي تتطلب ضرورة تدخل الدولة في المجال الاقتصادي لعلاج هذه الإخفاقات الممثلة في الافتقار إلى المنافسة الكاملة وعدم الاستقرار وعدم العدالة والآثار الاجتماعية غير المرغوبة، لكن الأزمة الهيكلية التي تعرضت لها الدول الرأسمالية مع بداية السبعينات من القرن العشرين غيرت أفكار الكلاسيك الجدد حيث جاء رائد المدرسة النقدية ميلتون فريدمان وأرجع أغلب الأزمات في الاقتصاديات الرأسمالية إلى تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي.

ولذلك نادت هذه المدرسة بضرورة تقليص تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي ورفع يدها عن الشؤون الاقتصادية، وبدلا من تركيز الدولة على الاستثمار وانهماك الدولة في الية غير مباشرة لتوزيع الدخل والثروة «كما هو الحال في مصر» فإنه يتعين على الدول أن تركز على الكفاءة والنمو.

كذلك، هناك مدارس دافعت عن تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، ومن ذلك ما طُرح في النظرية الكينزية التي ظهرت كمحاولة لعلاج الآثار السلبية لأزمة الكساد الكبير لعام 1929، وقد أرجعت النظرية بأن الاختلال الحاصل في الاقتصاد سببه عمل الاقتصاد في مستوى أقل من التشغيل الكامل مما أنتج بطالة مرتفعة والحل حسب هذه النظرية يكمن في تدخل الدولة من خلال زيادة حجم الطلب الكلي لزيادة معدل التشغيل، وأن التشغيل الكامل لا يكون إلا عند مستوى استثمار محدد وهذا الأخير لا يتأتى إلا من خلال تدخل الدولة وهو ما يبدو الاتجاه الذي تتشبث به مصر.

ولهذا نجد الحجج التي تثار من طرف هذا الاتجاه أو ذاك تختلف من مكان لآخر ومن زمان لآخر كما أنها لا تأتينا بجديد وإنما الجديد يكمن في التطبيقات العملية للدول، التي قد يسودها الآن إجماع على تقليص تدخل الدولة في الاقتصاد.

ولذلك فإن ما يحدث في مصر من تغول الدولة ومؤسساتها على الأنشطة الاقتصادية تارة بهدف الربحية وتارة بهدف خلق فرص عمل وتارة لتوفير السلع الاستراتيجية، لم يكتب له النجاح قط على مدى تاريخ الدولة الطويل.

بل إن هذا التغول يتسبب في إضعاف القطاع الخاص ويجلب على مصر وابل من الانتقادات والتحفظ المستمر من مؤسسات دولية أو من مستثمرين أجانب، حيث يتحدث السواد الأعظم عن غياب التنافسية والشفافية ونمو «كانتونات» تسيطر على قطاعات من بابها وتسيء لمناخ الأعمال بدلا من أن تحفزه.

وخلاصة القول في ضوء المستقر اقتصاديا الآن ويتعلق بدور الدولة، يكمن فيما حدده الاقتصادي الإيطالي الشهير فيتو تانزي، من ملامح الحد الأدنى لتدخل الدولة في الاقتصاد، وذلك في خمس وظائف رئيسية تشمل حفظ النظام العام والأمن والعدالة، واستقرار العلاقات السياسية وتسجيل وإنفاذ العقود وحماية حقوق الملكية، وحماية المنافسة، وأخيرا الشفافية وتوفير المعلومات.

يعني هذا أن تخارج الدولة بمشتملاتها من الاقتصاد لم يعد رفاهية بل فرض  تجبرنا عليه الظروف والصالح سواء للدولة أو للمواطنين خاصة لما في ذلك من مجال أوسع للشفافية والمنافسة ولفتح مجالات عمل جديدة تعود بالنفع على الجميع، وأيضا يوفر للحكومة فرصة أقوى لممارسة دورها الأوجب في تنظيم السوق وحماية المستهلك.

تابع مواقعنا