كيف كانت أيامنا مبهرة؟
لقد كان كل شيئا عاديًا للغاية، كنَّا ننام قبل صلاة العشاء ونستيقظ قبيل الفجر بِدقائق لِنستعد لِأداء الصلاة وكانت مشاهدة الشمس وقت شروقها وغروبها تبهج قلوبنا الصغيرة، وتسعد عيوننا اللامعة، وأما عن الأمطار فهي الضيف المحبب لنا، فقد كنَّا نهلل لرؤيتها ونودعها بِدموع عند الرحيل، فتترك لنا قوس قزح بِمثابة تذكار وداع.
وكنّا نتلهف ليوم الجمعة لِنستيقظ باكرًا ونتطيب بِالمسك ونرتدي جلابيبنا البيضاء ويصطحبنا أبونا لِلمسجد كَعادتِه ونري الأصحاب والأحباب، ونستمع للخطبة ونتأمل في كلماتها ونري الله فيها ونشوِّق بعضنا بِالجنة ونحذر من كان ذا ذنب منّا، كنّا نتسابق من يقرأ أكثر من صفحات القرآن الكريم ومن يسبحْ فوق المائة مرة يكنْ بطل هذه الجمعة.
أما عن يوم السبت فكان يوما ذا رائحة شهية، نستيقظ على رائحة خبز أمي ونتوسل إليها أن تصنع لكل منّا رغيفا صغيرا يشبه قلبه، ونترجاها لتسمح لنا أن نساعدها في تحضير العجين ثم تتفرغ بعد ذلك لإعداد الطعام لقد كانت أمي الطاهية الأمهر والطبيب الحنون والسيدة الأجمل، تساعدنا في مناهج لم تدرسها، تتعلم لِتعلمنا وترسم البسمات على وجهها حتي وإن كان قلبها يفيض همًا وحزنًا، كانت تستطيع أن تصلح أي شيء حتى قلوبنا.
أما عن أول يوم في الدراسة فقد كان عيدنا الثالث، فنُعِد كل شيء ليلًا، ملابسنا وحقائبنا وكان أبي قد اشتري لكل منّا قلمين وممحاة وتوصينا أمي ألا نأخذهم أول يوم خشيًة أن نفقدهم وتعطينا ورقة لنكتب ما سيمليه علينا المعلمون وما سنحتاجه هذا العام من دفاتر وكراسات، ونستيقظ قبل موعدنا بِساعة أو أكثر من شدة الشوق واللهفة، ونلقي الأصحاب بِعناق طويل يعد غياب دام لثلاثة أشهر ويتحدث كل منّا عما فعله في العطلة حتي يدق جرس الطابور فنتضجر لِمقاطعته حديثنا الشيّق ونكمله في اليوم الوافد.
ونعود للمنزل لنقص على أمي كل شيء حتى صغائر تفاصيل يومنا وهي تنصت بِاهتمام مرتسمًة على شفتيها ابتسامتها الجميلة فقد كان لها ابتسامة تُشبه شروق الشمس بعد ليل طويل، وبعدها نتناول غداءنا ويبدأ العمل الأكثر شقاءً بالنسبة لنا وهو أداء الواجبات وبعد أن نفرغ نمرح قليلًا ثم يحن وقت الراديو نستمع للشيخ محمد رفعت ونسعد عندما يتلو سورة من السور القِصار حافظين بعد آياتها فنردد معه حتي يغلبنا النعاس أعيننا في سلام، ننام ثم نستيقظ لِيوم جديد، ليوم جميل، لقد كنّا ثيابًا بيضاء ما دنستها ذنوب ولا لطختها مخاوف، لقد كنّا أنقياء كمياه تختبئ في جوف الأرض.. كيف كان كل شيء عاديًا ومبهرًا في آن واحد؟!
