الجمعة 29 مارس 2024
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات

المحبة وقبول الآخر

القاهرة 24
الإثنين 09/مارس/2020 - 01:12 ص

يُعلّمنا القديس يوحنا قائلاً: “تلك هي المحبة: نحن لم نحب الله، بل هو الذي أحبّنا… أما نحن فعلينا أن نُحب لأن حُبَّ الله لنا سابقٌ لحُبِّنا” (1 يو 4: 19،10).  هل نستطيع أن نعيش هذه المحبة؟ هل نستطيع أن نقترب من الآخرين لنصير أخوةً لهم؟ يوجد اختلاف كبير بين الحُب الحقيقي المبني على التضحية وبذل الذات وبين أي حبٍ عابر ووقتي أو مبني على المصلحة الشخصية، لأن المحبة الحقيقية تستقي أساسها من الله ذاته وليس من الإنسان. هذا الحُب الإلهي نقي وخالص وبدون شوائب وأساسه العطية. كما يجب أن نتحلّى بروح المبادرة في الحُب مثلما يفعل الوالدان تجاه أبنائهما متخذين الخطوة الأولى على مثال الله المُحِب الحقيقي، فالذي يحب حقاً لا ينتظر المبادرة من الغير لكي يحبّه، ولكنه يأخذ الخطوة الأولى، ولا ننكر أن من صفات المحبة المجانية أنها لا تنتظر أي مقابل من الآخر أو إدانته والحكم عليه، والشاغل الوحيد للمحبة هو أن تحب وتخدم، وهذا هو همّها الأول والأخير. لذلك يجب أن نتعلم أن نحب من أجل المحبة وبدون مقابل، ولتحقيق هذا، نحن بحاجةٍ إلى تضحيةٍ عظيمةٍ وتفاني يوماً بعد يوم. كما يجب أن يكون حُبّنا خلاّقاً في التعامل مع الآخرين دون النظر إلى استحقاقهم أو عدمه، لأننا نكتشف في الواقع أن هناك كثير من المعوقات التي تقف أمام الحب، ومنها كثرة التبريرات لعدم حُبِّنا للآخرين، وهي اتهامهم بالشر والعيوب، ثم نقف في مكاننا فاقدين الشجاعة التي تدفعنا إلى حُبهم، ونتجنب معظم الناس قائلين: “هؤلاء أُناسٌ أشرار وسيئين، من المستحيل احتمالهم أو اللقاء معهم”.

 

وأمام هذه النظرة الخاطئة للآخرين، نصل إلى الحد الذي نغلق فيه قلبنا  ونتراجع عن حبنا ونبحث عن أشخاص يستحقون حبنا، وندخر هذا الحب لذاتنا، مبررين ذلك بأنه يعود إلى أخطاء الآخرين. لا يستطيع أحد أن يدّعي بأن الله يحب الأخيار فقط، لأنه كما يقول الكتاب المقدس: “يُشرق شمسه على الأشرار والأخيار، ويُنزل المطر على الصالحين والطالحين” (مت5). كم من أشخاصٍ تغيّرت حياتهم للأفضل عندما شعروا بمحبة الله لهم؟ وكم من أُناس اتخذوا طريق الصلاح والبر لأنهم وثقوا في مغفرة الله اللا محدودة لهم؟ إذا زعمنا بوجود أشخاص سيئين من حولنا، أو أشرار يتعاملون معنا، سنكتشف السبب بأنهم لم يجدوا من يحبهم أو يحتضنهم. أيضاً لم يحصلوا على حصتهم من حُب الآخرين، هم صغار بسبب نقص محبة الغير لهم الذي أعاق نموهم، لأن الحب الحقيقي هو الذي يساعد على النمو ولا يتوقّف عند العيوب والأخطاء التي تصدر من الآخرين، وكما يقول الشاعر الإيطالي دانتى: “الحب قادر على تحريك الشمس وسائر الكواكب”. فالحب خلاّق، وإذا وجدنا شراً في العالم، نستطيع أن نُحَجّمه بحبّنا وقبولنا للآخرين. نحن لا نحب الآخرين لأنهم طيبين، ولكنهم سيصيرون طيبين لأننا نحبّهم، ويقول الكاتب برنانوس: “علمتني الخبرة فيما بعد، أننا لا نستطيع أن نصف الآخرين حسب عيوبهم ولكن بما في داخلهم من خير ولم يظهر على السطح بعد، ولكنه معهم منذ الطفولة وفي انتظار من يكتشفه ويُخرجه إلى النور”.

 

فالحب الحقيقي يذهب إلى ما وراء الأخطاء والعيوب ويدخل إلى العمق ويبحث ويكتشف ويوقظ ويلتمس ما لم يتلوث أو ما زال طاهراً نقياً حتى في الأشخاص الغارقين في الشر، ويُظهر جماله للآخرين. مَنْ يحب لا يخجل في أن يعتبر نفسه بحاجةٍ إلى الآخرين، كما يفعل الله القادر على كل شيء ويجعلنا نقوم بالانجازات والواجبات المطلوبة منّا ونعمل بأيدينا لنثمر وننتج، كما لو أنه يقول لكل واحد منّا: “أني أُحبّك، إذاً أنا بحاجةٍ إليك”. وطلب الله منّا لا يعني أنه لا يستطيع القيام به، ولكن الهدف منه أن يُخرج كل ما هو جميل ورائع بداخلنا. فقط من يُحب هو الذي يستطيع أن يطلب من هؤلاء الذين يقدّم لهم حبه. وفي هذا الصدد يقول جبران خليل جبران: “قد لا تستطيع قيود العالم أن تقرّب ما بين شخصين، ويستطيع خيط رفيع من الحُب أن يجمعهما إلى الأبد”. فالمحبة ليست مُزاح وتضييع وقت، ولكنها مسئولية كبيرة تصل إلى التضحية بالنفس وبذل الذات من أجل الآخرين. لا نستطيع أن نقبل حبّاً مقيّداً بالوقت والإمكانيات البسيطة دون مجهود أو آلام، ونختم بكلمات الجاحظ: “إذا كان الحُب يعمي عن المساوئ، فالبغض يعمي عن الحقائق والمحاسن”.

تابع مواقعنا