شجاعة رئيس
في عالم السياسة والدبلوماسية، هناك قرارات تكتب في التاريخ بحروف من نور، لأنها تعكس الكرامة الوطنية، وحكمة القيادة، وصلابة الإرادة، ومن بين هذه المواقف، يبرز موقف الرئيس الشجاع عبد الفتاح السيسي تجاه دعوة الرئيس الأمريكي ترامب لزيارة واشنطن لمناقشة مقترح خطير يقضي بترحيل الفلسطينيين من أراضيهم إلى كل من مصر والأردن.
في إطار سياساته المتهورة، طرح ترامب مشروعًا غير قانوني قوبل بالرفض الدولي بالمخالفة للمادة الثانية، الفقرة الرابعة من ميثاق الأمم المتحدة بحظر التهديد باستخدام القوة أو استخدامها ضد وحدة أراضي أي دولة أو استقلالها السياسي، وهو ما يجعل الترحيل القسري انتهاكًا صارخًا لسيادة الدول وللأمن الإقليمي والذي يتمثل في طلب تهجير الفلسطينيين إلى أراضٍ عربية مجاورة، كجزء من مخطط تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة، كان الهدف من هذا المخطط تحميل الدول العربية مسؤولية القضية الفلسطينية، بدلًا من حلّها وفق القرارات الدولية، مع إعفاء إسرائيل من أي التزامات سياسية أو قانونية تجاه الفلسطينيين.
في مواجهة هذه الدعوة المخالفة لاتفاقية چنيف الرابعة لعام 1949 ونص المادة 49 الذي جاء بحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين، أو ترحيلهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو أي دولة أخرى، أيًا كانت دواعيه، اتخذ الرئيس عبد الفتاح السيسي موقفًا واضحًا وقويًا برفضه التام للفكرة ليس فقط بالتصريحات بل أيضًا بعدم الاستجابة لدعوة ترامب لزيارة واشنطن لمناقشة هذا المقترح، وجاء هذا الرفض كرسالة واضحة بأن مصر الدولة الأكبر والأعرق عربيًا، لن تكون طرفًا في أي مخطط يستهدف تصفية القضية الفلسطينية أو يهدد الأمن القومي المصري.
مصر ليست فقط دولة جغرافية مجاورة لفلسطين، بل هي صاحبة الدور التاريخي في دعم القضية الفلسطينية، منذ نكبة 1948 وحتى اليوم، ولذلك، فإن أي حل يمر عبر إلغاء الوجود الفلسطيني على أرضه هو أمر غير مقبول سياسيًا أو استراتيجيًا، خاصة أن مثل هذا المخطط كان سيفتح الباب لمخاطر أمنية وإنسانية كبرى، بما في ذلك خلق توترات داخل الدول المستقبلة، وزيادة عدم الاستقرار الإقليمي.
على الجانب الآخر، كان موقف ملك الأردن عبد الله الثاني يتسم بالدبلوماسية حيث لم يرفض الدعوة مباشرة، بل سافر إلى واشنطن واستمع إلى الطرح الأمريكي، ثم خرج بتصريح أكد فيه أن الأردن لن يرد على المقترح إلا بعد التشاور مع مصر والدول العربية الأخرى.
في واقع الأمر يحمل استراتيجية دبلوماسية دقيقة فالدول الكبرى مثل الولايات المتحدة لا يُمكن مواجهتها بالرفض القاطع إلا في إطار تحالف دولي يُحصن القرار من العواقب السياسية والاقتصادية المحتملة، وهذا ما فعله ملك الأردن بحكمة إذ ضمن عدم ترك أي دولة عربية بمفردها أمام ضغط دولي كبير، وبدلًا من ذلك، جعل الرد العربي جماعيًا ومدروسًا
قد يرى البعض أن هذا الموقف لم يكن حاسمًا بما يكفي، لكنه في دهاليز السياسة والدبلوماسية كان تصرفًا في غاية الذكاء، إذ إنه وضع القرار النهائي في إطار وتحت غطاء عربي جماعي، ما عزز قوة الرفض محصنًا بتكتل عربي تحت قيادة السيسي وهذا ما تم التحرك نحوه بدبلوماسية حكيمة.
ورغم التصريحات الأمريكية المتهورة إلا أنني أعتقد أن واشنطن أدركت أن فرض حلول أحادية الجانب على الدول العربية لن ينجح، خاصة عندما يكون هناك موقف عربي موحد مستند إلى القانون الدولي وحق الفلسطينيين المشروع في تقرير مصيرهم.
ما حدث ليس مجرد تفصيل سياسي عابر، بل هو نموذج يمكن للعالم أن يتعلم منه، ففي السياسة الدولية، هناك لحظات تتطلب الحسم والشجاعة، وأخرى تتطلب الدبلوماسية الذكية.
الرسالة الأهم هنا هي أن الحقوق العربية لا يمكن تصفيتها بقرارات أمريكية أو ضغوط سياسية، وأن القوة الحقيقية لأي دولة تكمن في وحدة شعبها خلف قيادتها في اللحظات المصيرية، وهذا ما أظهره المصريون في هذه الأزمة فقد التفت جميع أطياف الشعب، من مؤسسات الدولة، والقوى السياسية، والنخب الثقافية، وحتى المواطن العادي، حول الرئيس السيسي وقراره الشجاع برفض زيارة واشنطن وعدم القبول بأي مساومة على الحقوق العربية.


