تفتيح ودان
أوقات وبدون قصد منك ولا فضول بتجبرك الظروف إنك تسمع كلام بين طرفين وأنت مش متعمد تسمعه.. إجبارك على السمع بتفرضه ظروف المكان اللي أنت قاعد فيه جنبهم وقربك منهم بحكم المسافة، أو هدوء المكان نفسه اللي كلكم موجودين فيه واللي بسببه الصوت بيبقى مسموع حتى لو أنت قاعد بعيد عنهم، أو حتى إنك تكون قاعد فاضي والطرفين اللي ودانك سمعت كلامهم كانوا مُلفتين ليك بشكل أو بآخر فلقيت نفسك لا إراديًا بتسمعهم.. ده اللي حصل معايا من فترة خلال وجودي في كافيه هادي جدًا في منطقة المعادي.
لحسن حظي إن الترابيزة اللي بحب أقعد عليها كانت هي وترابيزة تانية بس هما اللي تم الانتهاء من مسحهم لإني كنت رايح بدري قبل ما العمال ينتهوا من الترويق اليومي للكافيه.. بعد ما قعدت بثواني دخل المحل اتنين قعدوا على الترابيزة التانية واللي كانت جنبي بالظبط.. الاتنين كانوا راجل في أوائل الستينات من عمره، ومعاه ابنه اللي عمره مايزدش على 20 سنة بالكتير.. الأب كان لابس بدلة وملامحه جامدة لكن باين عليه إنه شايل حزن مكبوت لسبب ما.. الابن اسمه آدم وكان لابس ملابس مناسبة لسنه وكان واضح إنه جاى القعدة دي غصب عنه أساسًا!.. قعدوا..
الأب اتنهد وقال: أخيرًا يا عم آدم.. آدم رد: أخيرًا إيه يا بابا.. الأب قال: أنت عارف بقالي قد إيه بتحايل عليك نقعد القعدة دي؟.. آدم رد: ما أنا جيت مع حضرتك أهو.. الأب قال بعتاب: أيوا بس بعد إيه!.. آدم بدأ يفش وينفخ.. الأب كمل كلامه: على العموم سيبنا من اللي فات خلاص، آدينا قاعدين سوا وهو ده الأهم، أنا النهاردة عايزك تتكلم وأنا هسمعك.. آدم سأل بحيرة حقيقية: مش فاهم أتكلم في إيه يا بابا؟، وهنطلع بإيه من الكلام في الآخر؟.. الأب رد وهو بيحاول يمسك نفسه: في كل الي مزعلك مني يا حبيبي.. آدم ابتسم بسخرية وقال: وحضرتك مستعد لكده؟.. الأب رد بغيظ: هو أنت جايبني غصب عني يا ابني؟، دا أنا اللي طلبت نتقابل، أنا داخل في أسبوعين لا بشوفك ولا بنتكلم مع إننا تحت سقف بيت واحد!.. آدم قال: يا بابا هو الأهم مش إننا قعدنا أو نتكلم، الأهم إننا نقول كلام جديد.. الأب قال بصبر: وأنا هنا النهاردة عشان نعمل كده.. آدم قال: وهي حاجة واحدة بس لو حضرتك اقتنعت بيها مش هنكون محتاجين لكل ده هي إنك تبطل تعاملني كإني طفل صغير.. الأب انفعل لأول مرة من بداية القعدة وقال: عشان رفضت إنك تشتغل مش كده؟، شغل إيه ده لعيل لسه ماتمش 20 سنة!.. آدم رد بنفس انفعال والده: أهو شوفت!، يا بابا أنا مش عيل، أرجوك تفهم ده بقى.. الأب حاول يتمالك أعصابه ورد بهدوء: أنا لما كنت في سنك كان كل اللي في بالي إني أركز وأنجح في دراستي وبس مع إن ماكانش فيه مقارنة بين ظروف أبويا وقتها وبين ظروفك أنت دلوقتي، أبويا كان موظف غلبان على قد حاله عايش في قرية ومسؤول عن 8 عيال يعني أسهل حاجة كنت أقول له عايز أشتغل وماكنش هيمانع أهو أشيل عنه الحِمل شوية بس ماقولتهاش ورميت نفسي في المذاكرة عشان أخلي حياة ولادي أحسن، ومايشوفوش اللي أنا شوفته، وأهو الحمد لله، أنت مش ناقصك أي حاجة، وعندك أب تفتخر بيه ويتمناه أى حد في سنك واللي بتعوزه بتلاقيه عندك من قبل حتى ما تقول عايزه، يعني أنا نجحت..
آدم قال بعناد: يا بابا ما هو ده الخلاف، إن أنا مش أنت، وإن حضرتك بالنسبالك النجاح يعني الفلوس عشان كده فاكر إني عايز أشتغل عشان الفلوس، لأ، أنا عايز ألاقي نفسي في الشغل.. الأب رد بجدية: طب ما ممكن تلاقي نفسك في الدراسة عادي، على الأقل عشان لما أموت تكون مؤهل بعلمك تشيل الشيلة التقيلة اللي هسيبها ورايا، لكن شغل مع الدراسة لأ، ده اسمه ضحك على الدقون.. آدم رد بسخرية: خليني أفكر حضرتك عشان واضح إنك نسيت، بابا أنا الأول على الدفعة في سنة وترم، ولما جبت تقدير إمتياز السنة اللي فاتت في أولى كلية جريت عليك عشان أفرحك وأنت مهتمتش عشان كنت مشغول في مكالمة عن مشكلة مصنع العبور، قولتلي مبروك وكملت مكالمتك ببساطة كإني كنت بقول لك صباح الخير.. الأب قال بعناد: يا سلام!، ماتكمل!، مش صحيت تاني يوم من النوم لقيت جنب سريرك أحدث موبايل.. الأب قال الجملة دي وبص على الموبايل اللي موجود قدام ابنه على الترابيزة وكمل كلامه وقال بإستغراب: هو فين الموبايل الجديد ده صحيح!.. آدم بعد وشه عن مواجهة والده وقال: في علبته وفي نفس مكانه زى ما هو.. الأب سأل باستغراب أكبر: من السنة اللي فاتت؟.. آدم رد بسرعة: من 9 شهور وأسبوعين بالظبط.. الأب سأل بحزن: ليه يا ابني؟.. آدم رد بإنفعال: عشان ماكنتش عايز الهدية ولحد دلوقتي مش طايقها لإني حاسس إنها ثمن بُعدك عني، أنا كنت محتاجك أنت، محتاجك تسألني عن حياتي، تفتح لي قلبك، وتسمعني، وتشاركني، أنت اختصرت الخوف عليا في التأمين المادي بس نسيت إن الخوف بدون مشاركة حاجة تخنق، كان نفسي يكون اهتمامك بيا مش اهتمام أداء واجب أو حط فلوس على الكومودينو وخلاص، يا بابا أنا بعد موت ماما بقيت حاسس إني لوحدي في البيوت ومش لاقي حد أحكيله، مابقتش طايق أقعد فيه، هي اللي كانت بتسمعني ووجودها كان مخلي البيت جنة، كان عندي أمل إنك تعوضني عنها بس كإنك قررت تغيب أنت كمان لما هي غابت، صدقني المشكلة مش عندي يا بابا أنت اللي بعدت..
الأب حاول يبتسم وقال: وأنت كبرت.. سكت الاتنين شوية وبعدها كمل الأب كلامه وقال بحزن: وليه ماقولتش إن اللي حصل معاك حصل معايا أنا كمان!.. آدم بص لوالده نظرة تساؤل فكمل الأب كلامه وقال: لما مامتك اتوفت أنا كمان اتكسرت، مايغركش شوية العافية اللي الواحد بيتعايق بيهم في شغله ولا كلامه وبيستخبى وراهم وحسستك للحظة إن قلبي جامد، موت سهير ساب فيا شرخ مش هيتداوى إلا لما أقابلها.. آدم قال بسرعة: بعد الشر عليك.. الأب كمل كلامه وكان واضح من صوته إن دموعه بتحاول تغلبه: بس بعد كام يوم حسيت إني لازم أكون أقف على رجليا عشانك، كنت شايفك موجوع فحبيت أبان قدامك قوي عشان تعمل زيي بس نسيت إن القوة الحقيقية هي إني أكون جنبك، مش إني أهرب في شغلي، وده حسيته لما لقيتنا بنبعد عن بعض عشان كده طلبت نتكلم عشان نحاول نصلح اللي فات.. آدم بص تحته وقال بصوت مكسور: أنا آسف لو مافهمتش ده لوحدي.. الأب رد بسرعة: لا يا حبيبي ماتعتذرش، زى ما أنت قولتها من شوية، لو فينا حد مديون للتاني باعتذار هيبقى أنا مش أنت، أنا غلطت في حقك لما أخرت نفسي عن الجواز وتكوين أسرة وأنا صغير في السن ودفنت نفسي في الشغل، وغلطت لما خلفتك متأخر وفرق السن بيني وبينك بقى كبير، وغلطت لما نسيتك وسيبتك لوحدك.. سكت الاتنين لحظة وحاول الأب يغير دفة الكلام فقال: إحنا هنقلبها حزايني ولا إيه؟.. آدم قال: قصدك دراما كوين.. الأب قال بحماس: ما علينا، بقول لك إيه، تعالا نبدأ من جديد، زى أى أب وابنه، إيه رأيك؟.. آدم رد بنفس حماس والده: أنا كمان محتاج ده، ولو أنت محتاجه زيي خلينا نبدأ من النهاردة أنا جاهز.. الأب سأل باهتمام: هنعمل إيه؟.. آدم رد بسرعة: ممكن نبدأ بحاجة بسيطة؟، تيجي تحضر معايا ماتش الكورة اللي هلعبه النهاردة.. الأب قال بحيرة: أيوا بس أنا ماليش في الكورة!.. آدم رد: مش مهم حتى لو مش فاهم حاجة.. الأب قال وهو بيضحك: طب هو أنا هشجعك ولا هفهم في الكورة؟.. آدم شاور بصوابعه وقال: الاتنين.. الأب هز راسه وقال: حاضر يا سيدي أوامر.. كان واضح إن مسار الكلام بقى في طريق مرضي للطرفين وإن العلاقة بينهم اتحسنت وسوء التفاهم اللي كان بينهم زال.. الأب قال بهدوء: عارف، أنا كنت بحب أبويا جدًا بس عمري ماقدرت أقول له إني بحبه، كنت كل ما أحس إني عايز أقول له إني بحبه أقوم أشرب شاي بلبن، ماتفهمش إيه العلاقة بس كنت بعمل كده.. قالها الأب وضحك، وآدم كمان ضحك على ضحكه بشكل ملفت للنظر لد ما الجرسون دخل عليهم وسألهم: تحبوا تشربوا إيه يا فندم؟.. آدم رد بسرعة وهو باصص لوالده بامتنان: أنا هاخد شاي بلبن.. الأب بص لابنه بصة مطولة وقال بنبرة كلها حنية: وأنا كمان زيه بالظبط، شاى بلبن.. قالها كمل الاتنين ضحك بشكل غاية في اللُطف.
• مهما كانت المشاغل والضغوطات اللي بنشوفها واللي كده كده مفيش حد فينا حياته خالية منها مينفعش ده ييجي على حساب القريبين الغاليين.. إحنا بنقدر نكمل بالشويتين تلاتة اللي بنسمع فيهم القريبين أو بنتسمع منهم.. القريب هيقدر يستحمل تقصيرك عدد كبير من المرات بس مش للأبد.. دوامة الحياة لما تتساب عشان تسحبك بتسحبك كلك فمتقطعش الخيط اللي رابط بالناس الوحيدين اللي ممكن يلحقوك.


