فلسفة رجب
الأب والأم كانوا ناس طيبين.. الأب مزارع بسيط بيشتغل بالأجرة لكنه راضي وفي قمة القناعة.. استمر رضاه وقناعته وتسليمه لأمر ربنا حتى بعد عدم إنجابه هو ومراته رغم إن موضوع الخلفة ده كان هيخليه يحقق جزء من أحلامه القليلة أصلًا في الحياة.. بس الراجل صبر.. صاحب الأرض اللي هو بيشتغل فيها وبسبب إخلاص الراجل المزارع البسيط ده على مدار سنين قرر إنه يخليه يكشف هو ومراته عند أهم دكتور في المحافظة وقتها عشان يساعدهم ويحاول يشوف حل.. طبعًا أنت كمزارع فكرة إنك تروح أنت ومراتك لدكتور عشان يكشف عليكم كان حلم بعيد المنال عليهم بسبب الإمكانيات المادية الضعيفة بس توكله على الله خلّى صاحب الأرض يظهر في الصورة، ويكون تجسيد لرحمة ربنا على الأرض.
بالفعل بيتابع المزارع ومراته مع الدكتور لمدة 4 سنين كاملين وفي النهاية بيحصل الحمل وبيشرّف رجب للدنيا.. طفل أسمر جميل ومؤدب وهادي.. ورث رجب الطيبة والبساطة والتسليم لله من أبوه وأمه وقدروا يربوه تربية حسنة.. يشاء ربنا إن ربنا يرزق الأسرة بطفل تاني بعد رجب عشان تبقى معجزة تانية جديدة وغريبة!.. دخل رجب الجيش عشان يأدي الخدمة العسكرية بتاعته.. تمر شهور خدمته عادية وفي نصها تمامًا يشاء ربنا إن الأسرة البسيطة دي تقابل موقف هو الأصعب عليهم على الإطلاق!.. الأب والأم والابن التاني الصغير وهما راجعين من زيارة في بلد تانية جنبهم يتقلب بيهم الميكروباص اللي مسافرين بيه ويتوفوا!.. فجأة يعرف رجب الخبر وهو في الجيش إنه بقى يتيم!.. أسرته راحت في لحظة.. واحد غيره كان ممكن يتجنن أو عقله يشت بس لسبب لا يعلمه إلا الله استقبل الولد الخبر بمنتهى القوة اللي كانت دليل على محبة ربنا له، وعلى قوة إيمانه بالقضاء والقدر!.
مفيش شك إن جزء كبير في قلب رجب اتشرخ.. أول إجازة ينزلها بعد الحادثة كانت تقيلة على قلبه علشان البيت اللي كان كله ونس وحب بقى فاضي.. مرت الشهور والولد بيحاول يتعافى لحد ما جه في باله خاطر إنه عايز يتجوز.. الحقيقة إنه كان بيخطط للجواز من قبل وفاة أسرته وكان محدد العروسة بالفعل وبالفعل برضه كلم أبوه وأمه اللي يرحمهم عنها.. مين يا رجب؟.. بنت العمدة فلان.. أنت اتجننت يا ابني!.. عايز تتجوز بنت العمدة!.. إحنا ناس غلابة يا رجب!، ماتنساش ده!.. أنا مش ناسي بس في نفس الوقت أنا قاصد خير ومش عايز شيء بطال، وأنت علمتني يا أبويا إن المتوكل على ربنا ربنا بييسر له أموره وبيوقفله ولاد الحلال.. بعد سلسلة من المحايلات الأب كان شِبه اقتنع خلاص وآمن بكلام ابنه إن هي تجربة ومش هنخسر حاجة غير شوية تهزيق لو فشلنا بس على الأقل هبقى رضيت ابني.
لكن طبعًا لما حصلت وفاة الأسرة بقى "رجب" لوحده وبطوله ولما اتجددت رغبته في الجواز ماكنش قدامه غير إنه يروح يتقدم لوحده.. حصل فعلًا وفي أول إجازة بعد القرار نزل رجب وراح بيت العمدة وطلب إنه يتكلم معاه على جنب بس العمدة اللي كان حواليه مجموعة من أصدقائه ومعارفه صمم إن رجب يتكلم قدام الكل أصل إيه الأمر الخاص اللي هيكون بيني وبين ابن مزارع غلبان!.. قول يا رجب مفيش حد غريب.. رجب وبعد محاولات من استجماع شجاعته قالها للراجل مرة واحدة.. أنا عايز أخطب بنتك فلانة.. العمدة سأله بنتي أنا؟.. رجب أكد الإجابة مرة تانية.. ثواني وانفجر العمدة وطبعًا كل اللي حاضرين القعدة بالضحك.. العمدة كان في قمة قلة الذوق والسخافة من الشاب الصغير وقال له فيما معناه إن الناس مقامات والأفضل إنك تشوف حد على قد ظروفك عشان ماتحرجش نفسك، وبعدين هو فيه حد ييجي يتقدم لحد بطوله كده وفراداني بدون لا عيلة ولا كبير!.. رغم إن العمدة البارد عارف إن الولد أهله ماتوا كلهم بس صمم يرمي الجملة دي.
"رجب" خد الكلمتين في جنابه وسكت ورجع على بيته ودموعه عاملة مسارات مؤلمة على خدوده وقبلها على قلبه.. رجع الوحدة بتاعته في الجيش وحكى لصديقه المقرب اللي حصل.. بعدها بأيام بدأ يبان على وش رجب إنه تايه ومش مركز وخاسس أكتر ما هو خاسس أصلًا!.. الظابط القائد بتاعه لاحظ ده.. جابه وسأله.. رد إن مفيش حاجة.. القائد صمم يعرف.. رجب صمم إن مفيش حاجة.. القائد استدعى زميل رجب عشان يسأله عن الحالة اللي فيها صاحبه، فحكاله كل شيء بالتفصيل.. القائد استدعى رجب وبلغه إنه عرف كل حاجة وسأله سؤال مباشر.. أنت اللي وجعك ومضايقك إنك اترفضت بس؟.. رد رجب إن لأ وإن اللي كان أقسى عليه من الرفض هو معايرة العمدة له باليُتم اللي مالوش ذنب فيه.. رد القائد: وهو مين قال إنك يتيم!.. رجب مافهمش إيه مغزى الرد بس بعدها بشهر بالظبط قرر القائد إنه يخلي إجازته في نفس يوم إجازة رجب ومش إجازة رجب وبس.. لأ.. القائد جاب كل زمايل رجب اللي تزامن وقت إجازتهم مع إجازة رجب وراح أخدهم وأخد رجب وطلعوا بأتوبيس واحد كبير على بيت العمدة!.
ولا واحد من الشباب اللي كانوا في الأتوبيس كان فاهم حاجة باستثناء القائد اللي بمجرد ما وصلوا بالعدد الضخم ده كله كانوا ملفتين للنظر.. طلب القائد يقابل العمدة ولما حصل كان فيه تقدير كبير من الراجل لضيوفه وقال القائد للعمدة قصاد كل الحاضرين سواء جنود أو معارف العمدة: ابننا رجب جه يتقدم لبنتك الشهر اللي فات يا عمدة وأنت رفضت وده حقك، بس اللي مش من حقك إنك ماتاخدش بالك إنه مش مقطوع من شجرة وتسأله عن أهله.. أنا بقى جاي النهاردة عشان أقول لك إن أنا وكل الشباب اللي معايا دول أهل الراجل ده وإخواته وإن والله ماشوفنا منه غير كل خير وإننا بنتشرف بيه.. العمدة اتخرس ومفيش ولا كلمة طلعت منه، ورجب غلبته دموعه برضه بس المرة دي دموع الفرحة وإن فيه حد جبر بخاطره قدام الكل زي ما خاطره اتكسر برضه قدام الكل.
مرت الأيام أكتر وأكتر وكان رجب من أبطالنا في حرب أكتوبر 1973 اللي شاركوا في العبور، وفي رفع العلم على أرضنا.. قبل الحرب بلحظات فيه زميل له سأله تفتكر هننتصر يا رجب رد عليه بالجملة اللي كان اتعلمها من والده الله يرحمه: أنا متأكد!، ما هو المتوكل على ربنا ربنا بييسرله أموره وبيوقفله ولاد الحلال.. مرت الأيام أكتر وأكتر وأكتر واتجوز رجب وبقى له أسرة كبيرة ومحترمة وبقت فلسفتهم الأساسية سواء ليهم أو لأحفادهم هي نفس الجملة.. المتوكل على ربنا ربنا بييسرله أموره وبيوقفله ولاد الحلال.
- ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾.. اللي بيراعي ربنا في كلامه وأفعاله بيتفتح له بدل الباب ألف باب.. القلق، والشكوى، والخوف وكل منغصات الحياة بتقل وبتكون في أدنى درجاتها لما بتفتكر إن ربنا موجود.. الناس إيدك منهم والأرض واللي يتعلق بيهم غرقان.. في نفس الوقت ربنا هو الوحيد اللي قادر يلحقك، يحققلك، يكرمك، ويوفقك.. المتوكل على ربنا ربنا بييسر له أموره وبيوقفله ولاد الحلال في كل خطوة ومع كل نفس.