السياسي - سوشيال ميديا 3: المؤثرون يحكمون والسياسيون يتقاعدون
نحن على أعتاب ثورة سياسية غير مسبوقة في التاريخ البشري ستقلب موازين القوى العالمية رأسًا على عقب.. ما نشهده اليوم يتعدى استخدام السياسيين لمنصات التواصل الاجتماعي كأداة تكميلية إلى تحول جذري في بنية السلطة ذاتها، حيث يتحول المؤثرون أنفسهم إلى القوة السياسية المهيمنة في العقود القادمة.
سيصبح امتلاك قاعدة متابعين واسعة بمثابة "رأس مال انتخابي" جديد، حيث سيتمتع المؤثرون الذين يملكون مئات الآلاف أو الملايين من المتابعين بميزة تنافسية هائلة عند خوض الانتخابات، إذ يمتلكون بالفعل منصة للوصول المباشر إلى الناخبين دون الحاجة للوسائط التقليدية.
سيتم إعادة تعريف مفهوم التمثيل الديمقراطي نفسه، فإذا كانت الديمقراطية تعني حكم الشعب، فإن المؤثر الذي يحظى بمتابعة واسعة يمكن اعتباره ممثلًا "منتخبًا" افتراضيًا قبل أي انتخابات رسمية، لتصبح المتابعة الرقمية شكلًا جديدًا من أشكال التفويض الشعبي، والأحزاب التقليدية التي فشلت في التكيف مع الواقع الرقمي ستنقرض تمامًا بحلول عام 2035، مخلّفة وراءها فراغًا تملؤه كيانات سياسية هجينة تُدار كمنصات رقمية وليس كمؤسسات بيروقراطية، حيث ستظهر أحزاب سياسية ذات طابع رقمي بالكامل، تتشكل حول شخصيات مؤثرة وليس حول أيديولوجيات أو برامج، هذه الأحزاب ستعتمد على العلاقة العاطفية بين المؤثر ومتابعيه أكثر من اعتمادها على السياسات الموضوعية.
أول حزب رقمي عابر للقارات
سيتم استبدال الخبرة السياسية التقليدية بمهارات جديدة مثل إدارة المحتوى الرقمي والقدرة على خلق اتجاهات (ترندات) وإثارة المشاعر الجماعية، وقد نشهد تعيينًا لوزراء "إدارة محتوى" أو مستشارين للاستراتيجيات الرقمية في الحكومات، وستتحول الانتخابات إلى ما يشبه مسابقات التصويت في برامج تلفزيون الواقع، حيث يفوز من يستطيع حشد أكبر قدر من المشاركة العاطفية والتفاعلية، وليس من يقدم أفضل الحلول للتحديات المجتمعية، وسنشهد خلال عشر سنوات أول حزب رقمي عابر للقارات، يتجاوز الحدود الوطنية ليشكل قوة سياسية عالمية تعمل في دول متعددة بشكل متزامن، متحديًا مفهوم السيادة الوطنية نفسه
تحول الكفاءات: من الخبرة السياسية إلى الذكاء العاطفي الرقمي
المهارات المطلوبة للقيادة السياسية ستشهد تحولًا جذريًا، وسينحسر دور الخبراء التقنيين والاقتصاديين لصالح "مهندسي المشاعر الجماعية" القادرين على فهم وتوجيه العواطف الجماهيرية عبر الخوارزميات، وسنشهد ظهور مناصب حكومية جديدة تمامًا مثل "وزير إدارة الواقع الافتراضي العام" و"مستشار الأمن العاطفي القومي"، وبحلول عام 2035، ستصبح القدرة على خلق "لحظات مشتركة" عبر المنصات الرقمية أكثر أهمية من القدرة على صياغة سياسات اقتصادية معقدة.
التحدي الوجودي: الحكم في عالم الاستعراض الدائم
التحدي الأكبر الذي سيواجه المجتمعات في هذا المستقبل هو إيجاد توازن بين متطلبات الاستعراض الرقمي والحكم الفعّال.. كيف يمكن لسياسي مؤثر أن يتخذ قرارات غير شعبية لكنها ضرورية في عالم يعاقب أي انخفاض في معدلات التفاعل بشكل فوري؟، سيؤدي هذا التناقض إلى ظهور "طبقة تنفيذية خفية"، مجموعة من الخبراء التقنيين يعملون بعيدًا عن الأضواء لإدارة الأنظمة المعقدة، بينما يركز السياسيون - المؤثرون على الواجهة الاستعراضية للحكم.
في هذا المشهد المستقبلي، سيواجه المجتمع تحديًا غير مسبوق: “كيف نحافظ على جوهر العمل الحكومي والمؤسسات الفاعلة في عالم تتحول فيه السياسة إلى استعراض رقمي مستمر؟” وكيف نضمن أن المؤثرين الذين يصلون إلى مراكز صنع القرار يمتلكون القدرات اللازمة لإدارة التعقيدات الواقعية للحكم، وليس فقط مهارات إدارة الصورة الرقمية؟، إنها مخاطر ظهور نظام استبدادي من نوع جديد؛ استبداد المشاعر الجماعية والخوارزميات التي تتلاعب بها.
المستقبل السياسي لن يكون نسخة رقمية من الماضي فقط، بل إعادة تشكيل جذرية لمفهوم السلطة والتمثيل والحكم، قد نكون على أعتاب أكبر تحول في النظام السياسي منذ ظهور الديمقراطية التمثيلية في أوروبا، تحولٌ سيُعيد تعريف العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بين الواقعي والافتراضي، بين السياسة كفن للممكن والسياسة كاستعراض للمشاعر.


