حين دخل الغرباء بلا استئذان إلى الصحافة والإعلام
لم تكن مهنة الصحافة والإعلام يومًا مهنة سهلة أو متاحة لكل من طرق بابها، بل كانت وما زالت – في جوهرها الحقيقي – مهنة الرسالة والفكر والضمير، كان الانضمام إلى صفوفها يتطلب جهدًا وسنوات من التعلم والخبرة، إضافة إلى موهبة فطرية، وثقافة واسعة، وقدرة على التأثير المسؤول في الرأي العام، لكن ما حدث خلال السنوات الأخيرة جعل هذه القواعد تُهدم أمام أعيننا، ودخل الغرباء بلا استئذان إلى قلب المهنة، فاختلط الحابل بالنابل، وتساوى صاحب الرسالة بمن لا يدرك من الكلمة سوى حروفها.
لقد شهدنا كيف صعد إلى صدارة المشهد الإعلامي والصحفي من لا يملكون الحد الأدنى من المؤهلات المهنية أو المعرفية، رأينا شاشاتٍ تُملأ بأصوات مرتفعة، ومقالات تُنشر بلا لُغة، وتحليلات فارغة من المعنى. وصار المعيار هو عدد المتابعين، لا عمق الفكرة؛ شكل المذيع، لا قوة طرحه؛ الجدل الذي يصنعه، لا القيمة التي يقدمها.
ولكن الأخطر من ذلك هو أن بعض من دخلوا إلى المهنة لم يكونوا فقط من غير المؤهلين، بل منهم من انتحل الصفة وتظاهر بالمعرفة. هؤلاء الذين استطاعوا أن يضعوا لأنفسهم لقب “صحفي” أو “إعلامي” دون أن يمتلكوا الأدوات أو المعرفة اللازمة للقيام بذلك. انتحال الصفة أصبح ظاهرة في وقتنا الحالي، حيث تحولت المهنة إلى مجال مفتوح للجميع، وأصبح كل من يملك حسابًا على وسائل التواصل الاجتماعي يُعتبر إعلاميًا، وكل من يردد بعض العبارات السطحية في برنامج يُعتبر صحفيًا.
وهنا يطرح سؤال محوري: هل أصبحت القنوات الفضائية، في سعيها وراء الربح السريع، تبيع الهواء لكل من لديه المال؟ ليس سرًا أن بعض القنوات قد فتحت أبوابها لمن يملك القدرة على الدفع، بغض النظر عن مؤهلاته أو مصداقيته. لقد تحول ظهور الشخص على الشاشة إلى سلعة، وأصبح “المذيع” أو “الصحفي” مجرد منتج آخر يباع ويشترى، طالما أن هناك من يدفع الثمن. لكن هل هذا هو المعايير التي نريد أن يرتكز عليها إعلامنا؟ هل نريد أن تظل مهنة الإعلام في يد من يملك المال فقط، بينما تُغلق أمام من يملكون من العلم والخبرة ما يؤهلهم لإيصال الحقيقة؟
هذه ليست أزمة عابرة، بل هي خلل بنيوي في منظومة طالما افتخرت بأنها جزء من قوة مصر الناعمة. وما يزيد الأمر مرارة أن كثيرًا من الإعلاميين والصحفيين الحقيقيين، أصحاب التاريخ والمهنية، قد تم تهميشهم أو إقصاؤهم لصالح من يتقنون فن الظهور لا فن التأثير، وفن الترويج لا فن التنوير.
لكن الإنصاف يقتضي أن نعترف بأن هناك خطوات جادة بدأت تُتخذ مؤخرًا على طريق تصحيح المسار. فمنذ تشكيل الهيئة الوطنية للإعلام، والمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، بدأ الأمل يعود في أن تستعيد المهنة هيبتها، وأن يُعاد ترتيب البيت الإعلامي من الداخل. فهذه المؤسسات – بما تملكه من صلاحيات ورؤية تنظيمية – تمثل فرصة حقيقية لإعادة الانضباط إلى المشهد، وفلترة الساحة من الدخلاء والمتطفلين، وفتح المجال أمام الكفاءات التي غُيّبت طويلًا، وأمام كل من يحمل من الأسس المهنية ما يستحق أن يُطلق عليه لقب “إعلامي” أو “صحفي”.
نحن لا نطلب إقصاء أحد، ولا نحجر على حق أحد في الطموح، ولكننا نطالب بأن تُعاد للمهنة شروطها، وأن تُسترد مكانتها، وأن يُحمى جمهورها من العبث، لأن الإعلام ليس مجرد أداة للترفيه أو الاستهلاك، بل هو صوت وطن، وعقل أمة، ومرآة لواقعها وتطلعاتها.
لقد آن الأوان أن يُغلق الباب أمام العشوائية، وأن يُفتح من جديد أمام من يستحق، آن الأوان أن تعود الكلمة إلى أصحابها، والصورة إلى مضمونها، والميكروفون إلى من يعرف كيف يستخدمه. والمطلوب اليوم هو إرادة حقيقية لحماية المهنة، وإيمان صادق بأن قوة مصر الناعمة لا تُستعاد إلا بإعلام حر، مهني، ومؤثر.
فلتكن هذه المرحلة بداية لاستعادة الوعي، ولتصبح المؤسسات الجديدة مظلة لكل صاحب حق، وسيفًا على كل متجاوز، حتى لا نجد أنفسنا بعد سنوات نكتب مقالًا جديدًا بعنوان: “حين ضاعت المهنة إلى الأبد”


