لماذا نكره الضرائب.. ولماذا لا تُصلح الدولة؟ (3).. طريق الإصلاح من هنا
استهللت سلسلة مقالات لماذا نكره الضرائب؟ على فرضية تبدو بديهية لكنها في الحقيقة إشكالية؛ إذ إن المواطن لا يرفض الضريبة لأنه أناني أو متهرب، بل لأنه لا يرى مقابلًا لما يدفعه، وقد وصّفت في الحلقة الأولى أزمة الثقة بين الدولة والمواطن، ثم في الثانية حللت السبب الأعمق لهذه الإشكالية، وهو أن الاقتصاد لا يُموّل نفسه، بل دخل في منظومة شبه ريعية جعلته يعتمد على تدفقات خارجية لا ترتبط بجهد إنتاجي حقيقي.
وهذا النمط الريعي لا يصنع فقط أزمة تمويل، بل يُنتج عقلية جماعية شعبية ترى في الدعم حقًا وفي الضريبة ظلمًا، أما من ناحية الحكومة، فيجعل من الإصلاح الفعلي خيارًا مؤجلًا لا أولوية، خاصة مع الأثر المالي لهذا النمط.. والسؤال الذي يجب طرحه الآن ليس فقط لماذا وصلنا إلى هذه النقطة، بل كيف نخرج منها؟ وما المسار الممكن لتجاوز الحلقة المفرغة من الريعية والعجز الإنتاجي، وبناء اقتصاد منتج وعدالة ضريبية حقيقية؟
وفي تقديري، فإن المحور الأول للمسار العملي لحلحلة نمط الريعية، لا بد أن يكون بكسر فخ الاستقرار المؤقت Stabilization Trap، وهو مصطلح يشير إلى مأزق السياسات المالية التي تفضل تجنب الصدمة على حساب الإصلاح الحقيقي.
إذ إنه على مدار عقود، كانت السياسات الإدارية في مصر محكومة بمنطق الاستقرار بأي ثمن، إذ يتم تأجيل الإصلاح الحقيقي واستبداله بضخ موارد خارجية تخفف الصدمة، فجرى امتصاص كل أزمة كبرى بمنحة أو قرض أو وديعة، وهو ما أدى إلى حالة مستمرة من ترحيل المشكلات بدلًا من حلها، بما فاقم من وجودها وصعّب معالجتها، وعزّز في الوقت نفسه من الاعتمادية على الخارج.
وللخروج من هذا الفخ، فهناك حاجة إلى أدوات مؤسسية تعيد ضبط العلاقة بين الدولة وماليتها إصلاح مالي، أبرزها إعداد موازنات متوسطة الأجل مرتبطة بالأهداف لا بالمواسم، وتأسيس مجلس مالي مستقل يضع سقوفًا واضحة للإنفاق والعجز، وتطوير آليات تثبيت تلقائية - لتقليل التقلبات في الموازنة- تقلّل من الحاجة للتدخلات الطارئة والتمويل الخارجي.
أما عن المحور الثاني، فيجب أن يقوم على بناء محرك نمو داخلي، خاصة وأنه لن تنهض الدولة ما دامت القطاعات المنتجة عاجزة عن توليد قيمة مضافة حقيقية، إذ إن العقار والاستهلاك ليسا بديلين للتصنيع والتصدير كما أن الإصلاح المالي وحده لا يكفي؛ ولذلك، فلا بد من إعادة توجيه الموارد نحو الأنشطة التي تبني المستقبل وتنعش الاقتصاد.
من تلك الأنشطة بالطبع دعم التصنيع التحويلي والزراعة القابلة للتصدير، وإزالة التشوهات التي تجعل من الاستثمار في العقار أسهل من الاستثمار في الإنتاج، وإصلاح سوق العمل، وتحفيز الابتكار، وفتح المجال أمام القطاع الخاص بعيدًا عن المحسوبية، فبدون قاعدة إنتاجية قوية، سيظل كل تحسّن في النمو مؤقتًا.
أما المحور الثالث في تقديري، فيجب أن ينصب على إعادة تعريف العلاقة مع الخارج، ليس بمعاداة التمويل الخارجي أو الاستثمار الخليجي أو التفاهم مع المؤسسات الدولية بالطبع، لكنه أيضًا لا يمكن أن يستمر هذا الدعم كبديل دائم للإصلاح، فحتى مع ضبط المالية العامة وتحفيز النمو، يبقى الخارج شريكًا لا غنى عنه.
وعليه، فالمطلوب هو انتقال العلاقة مع الخارج من تدفُّق للاستهلاك إلى شراكة للإنتاج، وذلك من خلال ربط كل تمويل خارجي بمردود إنتاجي ملموس، وإدارة برامج التعاون الدولي بما يعزز الإصلاح المؤسسي لا فقط الأرقام المالية، وتحويل جزء من الاستثمارات الخليجية إلى أدوات تمويل مشترك blended finance -شراكات تجمع بين المال العام والخاص لتمويل مشاريع استراتيجية-، في قطاعات مثل الصناعة الخفيفة، واللوجستيات، والطاقة المتجددة وغيرها.
وتشير التجارب الدولية القريبة من الحالة المصرية، مثل المغرب وتركيا، إلى أن زيادة نسبة الاعتماد على الريع في مصر قد تسببت في جعل الاقتصاد هشًا في مواجهة التقلبات الدولية، وعرضة بشكل أكبر للأزمات مع كل صدمة خارجية، سواء في أسعار النفط أو في السياسة النقدية العالمية ولنا في فترة كوفيد 19 خير دليل.
فتشير البيانات إلى أن مصر تعتمد على الإيرادات الريعية بما يعادل 14–17% من الناتج المحلي، وهي نسبة تفوق كثيرًا نظيراتها، حيث لا تتعدى هذه النسبة في المغرب 5–6%، بينما في تركيا لا تصل حتى إلى 3%.، والأهم من ذلك، أن نمو الناتج المحلي في مصر يتذبذب مباشرة مع حجم التدفقات الريعية، وفي المقابل نرى النمو في الدول الأخرى مدفوع بالصناعة والتصدير، لا المنح والتحويلات.
ملخص القول، إن الضريبة ليست هي العدو، بل العجز عن الإنتاج، ولا يمكن بناء دولة قوية على تمويل خارجي متقلب، كما لا يمكن خلق عدالة ضريبية حقيقية دون دولة تُنتج وتُحاسب وتُخطط، فالضريبة ليست ظلمًا إذا اقترنت بالخدمات والمحاسبة والشفافية، لكنها تصبح عبئًا عندما تُفرض على اقتصاد لا يُنتج، ودولة لا تُصلح.
ختامًا، فالمسار السليم ليس مستحيلًا، لكنه يحتاج إلى شجاعة سياسية، ومشروع إصلاحي طويل النفس، يربط بين الضريبة والعدالة، وبين الدولة والمجتمع، ويعمل على تحويل النظام الضريبي إلى أداة تنموية حقيقية، لا مجرد وسيلة لتحصيل الإيرادات، وهو ما سوف أتناوله في المقال القادم من هذه السلسلة.


