القمة العربية في بغداد.. مصر تصوغ البيان الحقيقي للأمة
في زمن عربي تاهت فيه العناوين الكبرى وسط صخب التفاصيل جاءت القمة العربية الرابعة والثلاثون ببغداد كحالة استثنائية تستحق التوقف، ليس فقط لأنها انعقدت في العراق بعد غياب طويل ولكن لأنها أعادت طرح السؤال الجوهري إلى أين تمضي الأمة ومن يحمل اليوم عبء الحفاظ على الثوابت وسط عالم يتغير بسرعة مذهلة
في هذه اللحظة المفصلية جاءت كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لتكون أكثر من مجرد خطاب رسمي بل رؤية شاملة وموقف صريح يعيد ترتيب الأولويات ويضع النقاط فوق الحروف، ويؤكد أن مصر لا تزال تمسك بخيط العروبة الممتد من التاريخ إلى الحاضر مهما كثرت الانكسارات وتشابكت الخلافات.
لم تكن كلمات السيسي أمام القادة العرب مجرد اجترار لما هو معروف أو تكرار لما قيل في قمم سابقة، بل كانت تعبيرًا صادقًا عن قناعة مصرية راسخة بأن الأمن القومي العربي لا يُبنى إلا على قواعد من العدالة والحق، وأن فلسطين تظل القضية المركزية التي لا يمكن تجاوزها أو القفز فوقها مهما انشغلت العواصم بترتيب مصالحها وتبادل أوراقها.
حين قال الرئيس إن السلام سيبقى بعيد المنال ما لم تُقم الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو وعاصمتها القدس الشرقية لم يكن فقط يضع شرطًا سياسيًا للسلام بل كان يُطلق نداءً أخلاقيًا باسم أمة لا تزال تنزف من خاصرتها ويذكّر الجميع أن لا استقرار يُبنى فوق أنقاض الحقوق ولا سلام يمكن أن ينجو من عواقب الظلم.
مصر التي عبرت كل المنعطفات منذ نكبة فلسطين حتى اليوم لم تتنازل يومًا عن هذا المبدأ، ولم تغب لحظة عن ساحة الدفاع عن الحق الفلسطيني، وكانت وستظل طرفًا حاضرًا وفاعلًا لا يزايد ولا يفرط لكنها أيضًا لا تصمت ولا تُخدع أمام مشروعات تسوية تُبنى على وهم التعايش في غياب الكرامة والعدالة.
وقد كانت بغداد مكانًا ملهمًا لهذه العودة العربية إلى دائرة التفاعل الحقيقي، فالعراق الذي عانى لسنوات من التهميش والخراب يستعيد اليوم موقعه الطبيعي بين أشقائه، والعاصمة التي كانت لقرون منارة للعلم والقوة والثقافة استقبلت القادة العرب لتقول إن الجغرافيا لا تموت وإن ما تفرقه السياسة قد يجمعه الوجع والمصير المشترك.
ومن وسط هذا المشهد بدا الصوت المصري هو الأعلى والأوضح ليس لأنه الأعلى نبرة بل لأنه الأكثر صدقًا والأقوى حضورًا فالرئيس السيسي لم يتحدث بلغة المجاملات بل بلغة المسؤولية ومنطق التاريخ ومصلحة الأمة، وكان صريحًا في رفض التدخلات الخارجية التي تعبث بمستقبل الدول العربية وتغذي الانقسام وتزرع الطائفية والخراب.
وفي لحظة عربية يكثر فيها التردد ويُفتقد فيها القرار جاءت القاهرة لتقول كلمتها بثبات لتؤكد أن مصر لا تقف على الحياد حين يتعلق الأمر بمصير الأمة ولا تنتظر المواقف لتتخذ موقفًا بل تصنع الموقف وتحميه وتتمسك بثوابتها دون أن تغلق أبوابها أمام أي جهد صادق من أجل البناء والسلام.
الرسائل التي حملتها كلمة الرئيس المصري كانت واضحة لا تحتاج لتأويل؛ لا تطبيع يُغني عن العدالة ولا أمن بلا وحدة ولا وحدة بدون فلسطين، وكل مسار سياسي لا يُنصف الفلسطينيين هو مسار ناقص وكل تحرك لا يُراعي أمن الدول واستقرارها هو قفزة في المجهول، وكل تهاون مع الفوضى هو خيانة لمستقبل الأجيال القادمة.
وهكذا خرجت مصر من قمة بغداد أكثر ثباتًا في مواقفها وأقوى في رسالتها وأعمق في إدراكها لطبيعة اللحظة العربية التي تتطلب قيادة حقيقية لا تتحدث فقط بل تفكر وتقرر وتتحرك، وإنه إذا كان هناك من ينتظر من القمم العربية مواقف لا بيانات فإن مصر جاءت لتُجسد هذا الفارق وتمارسه على أرض الواقع قولًا وفعلًا.
ولذلك فإن التاريخ سيسجل أن قمة بغداد لم تكن مجرد لقاء روتيني في سجل الاجتماعات العربية، بل محطة أعادت فيها مصر التأكيد على جوهر العروبة وكرامة الموقف، وأن الرئيس عبد الفتاح السيسي لم يذهب ليردد كلامًا دبلوماسيًا محفوظًا بل ليقول للعرب جميعًا إن بيتكم لا يزال له جدار وإن بوصلتكم لا تزال تشير إلى القدس وإن أمتكم إن توحدت فلن تُقهر وإن فرطت فلن تبقى.
في عالم تساوى فيه الخطأ بالصمت، وتميّع فيه المواقف باسم الواقعية، جاءت كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي لتقول: هناك دولة عربية اسمها “مصر”، لا تُغير جلدها، ولا تساوم على مبادئها، ولا تبيع القضايا في بازار السياسة.
ختاما ومن بغداد، أعادت مصر تثبيت معادلة بسيطة، لكنها عظيمة “لا أمن عربي دون وحدة، ولا وحدة دون عدالة، ولا عدالة دون فلسطين.


