المعرض الأخير
طالما حذّرتني أمي من الدخول إلى شوارع القرافة وممراتها في الصباحات المبكّرة أو في آخر النهار حين تقترب الشمس من الغروب مخافة أن أسير في الدروب الفارغة من الأحياء، لكنني ما إن يأسرني الحنين حتّى أتناسى تنبيهاتها وأطوي الأرض لزيارة الأحباء الذين غابوا في أول النهار أو آخره لا فرق.
لكنني في هذه المرّة حين تُهت في الممرات التي كنتُ أحفظها ووجدتني أضيع بين الأحواش الصامتة وقد اقترب أذان المغرب تملّكني خوف حقيقي.
لم تعد ممرات قرافة الإمام الشافعي بهذا الوضوح واليُسر الذي عهدته منذ أن صحبتني جدتي وأنا طفلة في زياراتها الدوريّة لموتاها، فالأحواش التي كنتُ أعلِّمُ بها المداخل والمخارج أغلبها تساوى بالتراب.
وصلتُ إلي وجهتي قبل حلول الظلام، بيت مجاور تمامًا لمسجد الأمام الشافعي، بناء يزيد عمره عن ٢٠٠ عام، ضيّق المدخل، مشقق الجدران، تميل حوائطه التي تحمل مجموع من اللوحات الأثريّة إلى بعضها البعض كأنها تستند وتتآزر ضد قرار مفاجئ بالهدم.
هذا البيت هو بيت الخطّاط خالد الصوفي زاده الذي جاء من أنقرة إلى القاهرة في العام ١٨٩٠ وأورث عائلته على مدار خمسة أجيال عملَه بفنون الخط العربي والزخرفة والنحت والرسم حتّى صار اسم هذه العائلة أحد الأسماء البارزة والمرجعية لكل المُهتمين والمُنتمين لفنون الخط العربي والكتابات الإسلامية.
بقدر السعادة التي انتابتني لتلقّي دعوة الحضور لمعرض لوحات عائلة "زاده" بقدر ما كانت سعادتي مشوبة حين عرفتُ أنه المعرض الأخير في بيت العائلة المُقرر إزالته في إطار سلسلة هدم المنازل والمقابر من منطقة الإمام الشافعي والسيدة عائشة.
كنتُ أعرف مُسبقًا أن لعائلة صوفي زاده باعٌ طويل في فنون الخط العربي والزخرفة والرسم وأنهم خطّوا مقابر ومساجد ارتبطت بأسماء شخصيات عامة وشهيرة، بل وبأحداث معروفة أيضًا. لكن الوجود داخل هذا البيت ورؤية اللوحات والصور مُعلّقة على الجدران التي يزيد عمرها عن ٢٠٠ عام، جعلني أتخيّل هؤلاء الفنانين وهم ربما يجلسون في ذات الأماكن يستخدمون تلك الأدوات التي يعرضها الحفيد الخطّاط محمد شافعي بكل فخر كإرثه الأهم من تلك العائلة العريقة.
ولد خالد الصوفي زاده في أنقرة في العام ١٨٧٢ وجاء إلى القاهرة في ١٨٩٠ والتحق بالأزهر الشريف ثم عُيّن إمامًا لجامع محمد علي باشا. أخذ خالد صوفي علوم الخط عن والده ثم تزوّج في القاهرة من نفيسة أخت الخطاط سليم درويش واتّخذ منزلًا مجاورًا لمسجد الإمام الشافعي، منزلًا ستُهدم جدرانه لكن تاريخه أكبر من الهدم.
توارثت عائلة خالد صوفي زاده فنون الخطّ العربي واشتهروا به وسُجِّلت خطوطهم على جدران تُعدّ اليوم مزارات تاريخيّة، ناهيك عن أن بيت العائلة نفسه في إطار آخر كان من المفترض أن يُهيّأ ويُعدّ ليصبح مزارًا تاريخيًا. زيّنت خطوط الابن الأول أحمد بن خالد زاده مقابر أكابر مصر في وقته كمقبرة سعيد باشا ذو الفقار كبير الأمناء في العهد الملكي وصبري باشا أبو علم، وكتب ابنُه حسن بن أحمد خالد زاده مقابر الملك فاروق وقبر الرئيس جمال عبد الناصر وقبر طه حسين وقبر السيدة أم كلثوم وإسماعيل باشا صدقي وفريد الأطرش وغيرهم، كما كان خطاط دار الكُتب المصرية لمدة ٤٠ عامًا كتب خلالها الكتابات الخاصة بدار الكُتب ومُلحقاتها.
أستعرِضُ هذه السيرة العائلية بحزن شديد وأنا أقرنُها بقرار الهدم المنتظر تنفيذه في حقّ أحد المباني التراثية التي شهدت حياة صاخبة وإنجازات وأحاديث تخصُّ الحياة العامة المصرية في أزمانٍ مضت، بل وربما لقاءات يجب أن يُدوّن ما دارَ فيها كشهادات على تلك الأزمان.
أحيانًا أشعرُ أنني أؤذن في مالطا وأنه لا طائلة من الحديث في واقع لن يتغيّر، ثم ما ألبثُ أن أضبط إيماني وأن أصدّق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن أغرس ما بيدي من فسيلة وإن قامت القيامة، أغرسها في مصر أو في مالطا. إن كنتَ -قارئي العزيز- وصلتَ إلي هذه الفقرة فإنك بالتأكيد أدركتَ ما أرمي إليه وأنني فقط أتساءل إن كان هناك سبيلٌ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. فإن لم تكن ٢٠٠ عامًا من الحياة الزاخرة بالفنّ والعِلم والسياسة والثقافة والكتابة والتأريخ كفيلة بأن تشفع لهذه الجدران كي تبقى ولهذه الأحجار أن تُكرم بعد أن أدَّت ما عليها، فإن كلماتي هذه هي الأخرى لا تشفع لخمسة أجيال من الفنانين عاشوا بيننا لأن نترك لهم الذكرى التي ضمّتهم وجمعتهم تباعًا.
آملُ ألا يُغلق الباب وآملُ أن تُترك الجدران تستندُ إلى بعضها البعض بعد وَهَن السنوات كأنها تردد صوت من رحلوا: إننا كُنّا هُنا.


