الإثنين 08 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

الأكاديمية المصرية للفنون رمز القوة الناعمة في أوروبا

الثلاثاء 03/يونيو/2025 - 06:04 م

حين تمشي في شوارع روما العتيقة، وتشتم عبق الحضارة من حجارة المدرجات الرومانية والكنائس القديمة، لا تتخيل أن هناك مبنًى يحمل من طابع الفراعنة ما يذكّرك بأن التاريخ لا يُكتب من اتجاهٍ واحد.. هناك، في حي “فالي جوليا”، تقف الأكاديمية المصرية للفنون بروما كمنارة صامتة ولكنها عميقة التأثير، تبث إشعاعًا حضاريًا ثابتًا منذ نحو قرن من الزمن.. هي ليست مجرد مؤسسة تعليمية أو مركزًا ثقافيًا، بل هي مقام من مقامات الجمال المصري، تم تشييده ليثبت للعالم أن مصر لا تُخاطب الدنيا فقط من منابر السياسة، بل من أعالي الفن، ومهابة الثقافة، وخلود الإبداع.

تأسست الأكاديمية عام 1929، وهي أول أكاديمية من نوعها في العالم تمثل دولة غير أوروبية على أرض إيطاليا.. لم يكن مشروعًا إداريًا أو خطوة بروتوكولية، بل كان انحيازًا وطنيًا عميقًا لقيمة الفنون في تشكيل صورة مصر عالميًا.. جاءت الفكرة من قلب التجربة، حين شعر الفنان راغب عياد، وهو يدرس في روما، بحاجة بلاده إلى مؤسسة ترعى أبناءها المبدعين، وتُشهر مواهبهم في عاصمة الجمال الأوروبي.. وبعد جهود مضنية ودعم رسمي، تحققت الرؤية، وولدت الأكاديمية كبيتٍ مصري خالص في قلب أوروبا، احتضن فنانين وباحثين وكتّابًا مصريين تركوا بصماتهم على جدرانها وذاكرتها.

منذ لحظة انطلاقها، لم تكن الأكاديمية مجرد نافذة مصرية في الغرب، بل كانت مرآة تعكس صورة مصر الثقافية بصدق وعمق، بعيدًا عن النمطيات السياسية والاختزالات السطحية.. تحولت الأكاديمية إلى منصة فنية وإنسانية، تجمع بين الشرق والغرب، وتخلق حوارًا حضاريًا ممتدًا، ليس عبر الكلمات، بل عبر اللوحات، والمقطوعات الموسيقية، والأفلام، والعروض المسرحية، والنقاشات الفكرية التي تُقام داخل أروقتها.

الأكاديمية استضافت عبر تاريخها عشرات المعارض التشكيلية لكبار الفنانين المصريين، واحتضنت حفلات موسيقية لكلاسيكيات عربية وغربية، وفتحت أبوابها للحوارات الفكرية والفلسفية التي تناقش قضايا الفن والهوية والتعددية الثقافية.. وساهمت في مد جسور إنسانية بين مصر والعالم، وأعادت صياغة الصورة الذهنية عن الفنان والمثقف المصري في الوعي الأوروبي.

ولعل أبرز ما يميز الأكاديمية في السنوات الأخيرة هو إدارتها المتميزة بقيادة الدكتورة رانيا يحيي، رئيس الأكاديمية، التي استطاعت أن تُعيد للأكاديمية وهجها كمؤسسة ثقافية رائدة تعكس حضارة مصر وتستقطب اهتمام الأوروبيين.. بحسّها الفني الراقي وخبرتها الطويلة في الموسيقى والثقافة، جعلت من الأكاديمية ساحة متجددة للعروض الفنية والمحاضرات الفكرية، ونجحت في أن تُعزز مكانتها كرمز للقوة الناعمة المصرية في قلب أوروبا.
الدكتورة رانيا يحيي، بفكرها المستنير وإدارتها الحكيمة، قدمت نموذجًا لقيادة ثقافية قادرة على المزج بين التقاليد والابتكار، وأثبتت أن المرأة المصرية قادرة على تمثيل بلادها بأرقى صور الإبداع والدبلوماسية الثقافية.

لقد مثلت الأكاديمية نموذجًا فريدًا لما يمكن أن تفعله القوة الناعمة المصرية حين تجد مؤسسة حقيقية تحميها وتعبّر عنها.. فبين جدرانها لم تكن مصر حاضرة بصورتها الرسمية، بل بروحها العميقة: حضارة، وأغنية، وريشة، ونصّ، ومشهد سينمائي. هنا، لم تعد مصر “الدولة” هي الممثل الوحيد عن نفسها، بل أصبحت مصر “الحضارة” و”الثقافة” و”الخيال” هي الناطقة الرسمية باسمها.

إن القيمة الحقيقية للأكاديمية لا تُقاس فقط بعدد المعارض والندوات التي تنظمها، بل بما تُحدثه من أثرٍ ممتدٍ في الضمير الأوروبي.. في كل معرض تشكيلي يُقام هناك، وفي كل ليلة موسيقية، وفي كل لقاء فكري، تُعيد الأكاديمية تعريف مصر في العيون الغربية، لا بوصفها فقط بلد الفراعنة أو الأهرامات، بل ككيان ثقافي معاصر، يُبدع ويُنتج ويتفاعل ويُلهم.

وفي احتفالها الأخير بمرور 95 عامًا على تأسيسها، أعادت الأكاديمية تذكير العالم بدورها الفريد، من خلال فعاليات جمعت فنانين مصريين وإيطاليين، وعرضت أعمالًا تحتفي بالحركة والتجريب، وقدّمت فيلما وثائقيًا ناطقًا باللغتين العربية والإيطالية، يروي حكاية المكان والرسالة. هذه ليست مجرد احتفالية سنوية، بل هي تجديد لعهد طويل بين مصر والثقافة العالمية، بين التاريخ والإبداع، بين الجغرافيا والإنسان. فكل فنان مصري مر من هنا، ترك شيئًا من روحه، وكل زائر أوروبي خرج من هنا، حمل شيئًا من مصر معه.

وفي زمن تتقاطع فيه السياسات، وتتنازع فيه المصالح، تصبح الثقافة آخر الحصون، وأكثرها قدرة على التأثير.. وهنا تتجلى الأكاديمية كذراع من أذرع القوة الناعمة المصرية التي لا تطرق الأبواب، بل تفتح النوافذ. قوة لا ترفع الشعارات، بل تُقدّم الإنسان المصري في أجمل صوره: مبدعًا، متأملًا، منفتحًا، وعابرًا للحدود.

إن مصر، حين ترسل فنانيها ومفكريها ومبدعيها إلى العالم، لا ترسلهم كممثلين عن ثقافة هامشية تبحث عن دور، بل كمندوبين لحضارة صلبة الجذور، رخيمة الصوت، تعرف كيف تفرض حضورها دون أن تفرض رأيها، وتترك أثرها دون أن ترفع صوتها.

ولعل الأكاديمية المصرية للفنون بروما، بقيادة الدكتورة رانيا يحيي، هي خير تجلٍ لحقيقةٍ لا تموت: أن القوة الناعمة المصرية، حين تُصاغ بالفن والفكر والإبداع، تصبح أكثر تأثيرًا من ألف خطاب، وأبقى من أي سلاح.

تابع مواقعنا