الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

هويّة بـ 7 أرواح

الخميس 19/يونيو/2025 - 01:51 م

1
من العادات الاجتماعية التي يحرص عليها معظم العائلات في صعيد مصر أن يحفظ الطفل اسمه كاملًا، ليس الاسم الرباعي ولا الخماسي، بل يحفظ حتى الاسم التاسع والعاشر وربما إلى ما بعد ذلك. وتعتقد الكثير من العائلات أن هذا الحفظ الشفهيّ لسلسال الأجداد هو ضمان أن تُنقش سيرة العائلة في صدور الأحفاد وأن يشعروا بالثقة النابعة من الجذور الممتدة والعراقة والقِدم؛ والقِدم التاريخي بالتأكيد يولِّدُ نفوذًا جغرافيًا من حيث تقديم الاستشارات والآراء والفضّ في النزاعات والتصدُّر في كل الأمور الحياتية. وحتى فيما يخصُّ المنسّبين للنسب الشريف لآل البيت عليهم الصلاة والسلام يعرفُ أبناء العائلات امتدادهم وعند أي فرع بالتحديد ينضمون لسلسلة الآل الكريم.
2
تتكون الشخصية أو الهويّة المصرية من انتماءات وطبقات متراكمة تاريخيًا ومتشعبة جغرافيًا. ولم أرَ في محيط إطّلاعي من هُم أكثر انتماء من المصريين سواء لجغرافيا الأرض وحدود البلاد أو لطبقات التاريخ والحضارة المتراكمة على أعناقنا جميعًا بداية من أجدادنا القدماء أصحاب أول دولة وحكومة مركزية في التاريخ منذ عهد الدولة العتيقة (٣١٠٠- ٢٦٨٦ ) ق.م ثم الدولة القديمة التي تلتها والتي تُعدُّ أكثر شهرةً وحضورًا في أذهان العالم والمعروفة بحقبة "بناة الأهرامات" وحتّى الآن.


ولكن المكوِّن المصري القديم -الفرعوني مجازًا- ليس هو المكوِّن الأوحد في الهويّة المصرية، فللشخصية المصرية -حسب تأصيل الكاتب والمفكّر السياسي ميلاد حنّا - ٧ أعمدة أساسية يرتكز عليها المصري -أي مصري وكل مصري- في تعريفه لنفسه، أولُها وأقدمُها وأكثرُها حضورًا المكوِّن الفرعوني. فالطفلُ في مصر يعرفُ عن الأهرامات وأبي الهول قبل أن يعرف في أي قارة تقع تلك البلد التي تحوي الأهرامات وقبل أن يعرف حدود مصر من الجهات الأربعة. ويُلاحَظُ أنه حين تواجه مصر كدولة خطرًا أو تهديدًا من أية نوع ولو حتى في مباراة كرة قدم يرتدُّ الجميع إلى هذا الجذر وهذا العمود بالتحديد فنصبح كلنا "مصريين فراعنة- أحفاد الفراعنة- الفراعنة الصغار..) بحيث هو الانتماء الذي لا نختلفُ عليه كمصريين.


تتفاوت نسبة بقية مكوِّنات الهويّة أو أعمدة الشخصية المصرية حضورًا في الأذهان وفي السلوكيات والمعتقدات. فتلك الأعمدة بعضها زماني حسب طبقات التاريخ وتعاقب الحقب التاريخية وهي (الفرعوني- اليوناني الروماني- القبطي- الإسلامي) وبعضها مكاني حسب تأثير الموقع الجغرافي وهي (العمود العربي- العمود البحرأوسطي- العمود الأفريقي). ورغم تفاوت نسبة وجود هذه المكونات من مصري لآخر حسب وجوده الجغرافي داخل مصر وحسب انتمائه الفكري والديني لكنها جميعًا موجودة ومؤثرة والاختلاف يكمُن فقط في تصدُّر أحدها عن الآخر.
3
لكنني لا أخفي تعجبًا من موجة فكرية تصادفني على مواقع التواصل الاجتماعي تستاء/ تسخر من بعض الانتماءات لصالح غيرها. فمثلا موجة السخرية من الانتماء لمصر القديمة وفراعينها، وأمامها موجة أخرى تهاجم الانتماء الإقليمي وتؤكد بأننا لسنا "عرب" إنما نحن مصريون.


نعم، بالتأكيد نحن مصريون ولكن المكوِّن العربي الإسلامي الذي خالط الدماء المصرية بعد الفتح/ الغزو الإسلامي لمصر لا يمكن إغفاله وإخراجه من المعادلة نظريًا ولا من الچينات المصرية عمليًا. وماذا يعيبنا إن كُنا فراعنة أحفاد كبار العالم وحُكّام الأرض وأصحاب الحضارة العظمى ثم حصلنا على امتياز آخر جديد صنعنا وفقًا له حضارة إسلامية عظيمة وتوطّدت به مكانتنا في الإقليم الحديث بعد أن كانت مُسيطِرة ومُعتَبَرة في الإقليم القديم.


الحضارة الإسلامية تركت في مصر مئات بل آلاف القطع الفنية الفريدة من مدارس وكتاتيب وأسبلة وقباب بخلاف الزخارف والصناعات اليدوية ومتحف الفن الإسلامي يضم من تلك القطع ما يصعب حصره، ذلك لأن المصريين يحوِّلون أي مُعتَقَد لمُخرَجٍ فنّي لا يخلو من معمار أو صناعة، سواء كنا فراعنة أو أقباط أو مسلمين نترك بأيدينا ما يعكس معتقدنا، هذا بخلاف مكتبات ضخمة من المؤلفات أثرت العالم الإسلامي بمختلف العلوم، ولا يخفى على أحد أن كثيرًا من البلدان العربية الشقيقة المجاورة والتي ربما سبقتنا إلى الإسلام لا توجد بها حضارة إسلامية كالموجودة في مصر. فلماذا نضيّقُ على أنفسنا واسعًا وننكرُ بعضًا منّا ومن ذاكرتنا التاريخيّة التي ورثناها وترسّخت بداخلنا والتي نحمل بناء عليها امتيازات وواجبات والتزامات تجاه أنفسنا وتجاه انتماءاتنا الإسلامية والعربية والإقليمية!


الخلاصة أن تلك الأعمدة الراسخة مكوّنات للهويّة المصرية لا يمحو أحدُها آخر بل هي تقف متجاورة ونحنُ مَن نحدد حسب كل متغيِّر وكل تهديد وكل قضية نعاصرُها بأيّ تلك الأعمدة سنحتمي وأي تلك الأسلحة سنستخدم وعن أي الانتماءات سندافع.

تابع مواقعنا