الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

عين حورس وخلية أسيوط

الثلاثاء 24/يونيو/2025 - 01:27 م

لا تكاد تتوالى أحداث الإقليم العاصفة منذ قرابة العشرين شهرًا إلا وهي تذكّر المرء عنوة بتاريخ بلاده، وكيف تفنن الأسلاف في حفظها بكل السبل.
فالمصري القديم لم يكن مجرد صانع للحضارة بمعناها الكلاسيكي، من إقامة مبانٍ ومعابد وتماثيل وإنتاج نصوص دينية وفنية وابتكار عقائد وشق ترع وإقامة جسور واجتهاد في الزراعة والصناعة فحسب. 

فالمصري القديم كان واعيًا وفطنًا ومدركًا للنفس البشرية ومحركاتها، وقارئًا لمحيطه الجغرافي وأطماعه. لم يكن هذا المسالم البسيط الذي قد يتخيله البعض منكبًا طيلة يومه على كتابة البرديات وإطلاق البخور في المعابد فحسب، بل كان حصيفًا أريبًا يدرك كيف يمكنه حماية كل هذه الحضارة، بالجيش والدبلوماسية والحرب النفسية.. وبجمع المعلومات، أو ما يسمى اليوم العمل الاستخباري.

ومع الانكشاف والاختراق الاستخباراتي الهائل الذي تعرضت له عدد من البلدان والقوى المحيطة في الآونة الأخيرة، لا بد أن يقف المرء بالإجلال للمصريين القدماء الذين فطنوا إلى أهمية إحباط مهام الجواسيس المندسين وسط المصريين وإلقاء القبض عليهم، جنبا إلى جنب، مع إرسال العيون للخارج لتقصي أحوال الأعداء والمتربصين.
حتى بات ينظر لمصر القديمة كواحدة من أولى الحكومات المركزية التي أنشأت قبل آلاف السنين، ما صار يدعى اليوم بأجهزة المخابرات.
ولعل في معارك الملك "كامس" ابن "سقنن رع" ضد الهكسوس، والتي كانت بمثابة شرارة البدء لحروب التحرير، جهد استخباراتي واضح للدولة المصرية آنذاك، التي توجت معاركها بانتصار ساحق على الهكسوس وإن كان بيد الملك الأصغر لكامس.. البطل أحمس.
ولم يكن الملك كامس ليتحرك في حملاته العسكرية التحريرية دون جهد استخباراتي معاون، سجلته لنا النقوش وحملته صفحات التاريخ.
فقد أطبقت قوات كامس على فرقة سرية تحركت عبر الصحراء الغربية عن طريق الواحات، حاملة رسالة من ملك الهكسوس في الشمال لحاكم كوش في الجنوب) وهي السودان وما بعدها جنوبا (مفادها رغبة ملك الهكسوس في إحكام الحصار على القوات المصرية إذا ما تعاون الطرفان وتحركا بالتوازي والتزامن من الشمال والجنوب.
فقد كانت قوات كامس في الصعيد تمارس ضغطا مهولا على الهكسوس ما اضطر ملكهم لطلب المعونة من الجنوب، عبر استثارة ضغينة حاكم كوش ضد المصريين. لكن يبدو أن الأخير كان قد تأدب من حملات فراعين الأسرة الثانية عشر، لذا قطع علاقته بملك الهكسوس الذي جاء ضمن رسالته وعتابه حاكم كوش "لماذا أصبحت رديئا علي؟"
ولما نجحت الاستخبارات المضادة للملك "كامس" من قطع الرسالة والقبض على حامليها في الواحات البحرية قبالة المنيا وقبل وصولهم للسودان، قرر الملك المصري احتلال الواحات وقطع الطريق على أي تواصل تآمري بين الشمال والجنوب.
ثم نشطت عيون كامس حتى توصل إلى أن حاكم نفروسي، (وهي الآن القوصية بالقرب من أسيوط) خان بلاده وتواصل مع الهكسوس وعمل لصالحهم.
حتى ليعبر كامس عن هذا الحاكم بقوله: مصري خائن جعل بلاده عشا للآسيويين!
ولو كانت هناك صحافة يومية ووسائل إعلام في ذلك الزمن الغابر، لك أن تتخيل التغطيات المكثفة لإلقاء قوات الملك كامس القبض على خلية تجسس وتآمر في أسيوط.. ولتصدرت العناوين والمانشيتات: سقوط خلية أسيوط!
ولما كان رمسيس الثاني في خضم معركة قادش، تبين أن جواسيس مدسوسين عليه، زودوه بمعلومات خاطئة ضللت مساره في المعركة وهيأت له الأمور على غير ما هي عليه.
ولقد تمكن رمسيس واستخباراته، كرد فعل تداركي، من الكشف عن جاسوسين آخرين وانتزع منهما معلومات خطيرة ساعدته على الالتفاف على الموقف.
ولعل الكاتب والمؤلف "وولفغانغ كريغر" مؤلف كتاب "تاريخ المخابرات من الفراعنة وحتى وكالة الأمن القومي الأمريكية" عالج بعض الجوانب من بذور العمل المخابراتي الذي أسسه قدماء المصريين.
معتبرا أنهم فطنوا لأهمية إرسال المناديب للبلدان المجاورة ذات الأهمية الاستراتيجية للحكم في مصر، واستنطاق الناس فيها واستجلاء أحوالها، وتعاملهم مع قوافل التجارة ككنز معلوماتي يسير على قدمين ويحمل الكثير من التفاصيل عما مرت عليه القوافل من بلدان وأحوال.
وهذا من وجهة نظره بذرة مبكرة للعمل الاستخباراتي بصوره المختلفة في العالم الحديث.
وأقول من خلال تخصصي في تاريخ مصر القديم أن المسألة لم تكن واقعة على عاتق الدولة فحسب وجهاز مخابراتها الوليد الذي تطور عصرا فعصر، بل في وعي المواطن المصري الذي سلحته التجارب بخبرة إبلاغ حاكم مدينته عن أي مجموعة يستريب فيها وقد تكون ممارسة لنشاط جمع معلومات داخل القطر المصري.
ولعل رمز جهاز المخابرات العامة المصرية اليوم والذي يتخذ من عين حورس شعارا له، إشارة لهذه الثقافة الوقائية القديمة التي فطنت لأهمية المعلومة قبل العمل العسكري، أو قبل إجهاض العمل العدائي. ولأهمية مد النظر بعيدا لأجل حماية الوطن. وإننا إلى اليوم لنستخدم الكلمة الدارجة "يمقق" في إشارة إلى تدقيق النظر، وهي كلمة ذات جذور مصرية قديمة "ما آه" استخدمها المصريون في تلك الأزمنة الغابرة للتعبير عن النظر المتفحص، حتى أنهم رسموا رمزا لها "ضلع إنسان" في إشارة لكتم السر، وجواره نسران.
وكان التمقيق بداية لعصر الجواسيس والشوافين وكاتبي تقدير الموقف ومراسلي الملك الذين سيصيرون عيون الدولة العظمى التي تكاد تحكم العالم من الأسرة الثامنة عشر وحتى الأسرة العشرين. أزهى عصور مصر القديمة.

تابع مواقعنا