الثانوية العامة.. ما بين وهم المجموع وحقيقة سوق العمل
منذ نعومة أظافرنا، ترسخت في أذهاننا عبارة مألوفة ذاكر كويس علشان تدخل كلية قمة، أصبحت هذه الجملة جزءًا من الثقافة المصرية، وكأن مستقبل الطالب يُختزل في الالتحاق بكلية الطب أو الهندسة أو الصيدلة، ولكن، هل ما زالت هذه الكليات تمثل القمة فعلًا في عام 2025؟ أم أننا نلهث خلف حلم قديم ونتجاهل الفرص الحقيقية التي يفرضها الواقع؟
لا أحد يُنكر قيمة كليات الطب والهندسة والصيدلة، فهي مؤسسات أكاديمية عريقة خرجت أجيالًا من المتميزين، لكن في المقابل، أصبح من اللافت للنظر تكدس الخريجين في هذه المجالات، في ظل سوق عمل غير قادر على استيعاب هذا الكم، مما يتطلب وقفة حقيقية وإعادة نظر في المفاهيم التقليدية.
اليوم، تتغير خريطة سوق العمل بسرعة مذهلة، لم تعد الوظائف الأكثر طلبًا ترتبط بالمسارات التقليدية فقط، بل أصبح التخصص في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، تحليل البيانات، الأمن السيبراني، البرمجة، التكنولوجيا الحيوية، التسويق الإلكتروني، والتصميم الإبداعي من أكثر المجالات جذبًا وأعلى في العائد المادي، بل وتفتح آفاقًا دولية وفرصًا للعمل في الخارج.
الدولة لم تغفل هذه المتغيرات، فقد أنشأت خلال السنوات الماضية جامعات عصرية في الجلالة والعلمين والمنصورة الجديدة، بالإضافة إلى جامعة مصر للمعلوماتية، وهي مؤسسات تعليمية تقدم تخصصات مستقبلية، ومعتمدة دوليًا، ولديها شراكات مع جامعات عالمية مرموقة، ورغم ذلك، ما زالت ثقافة كليات القمة تسيطر على عقلية الكثيرين، متجاهلين أن القمة اليوم لم تعد تقتصر على كلية بعينها، بل على المهارة التي يملكها الخريج.
وهنا تبرز واحدة من أخطر الثغرات في منظومة التعليم غياب التوجيه المهني الحقيقي، الطالب يُفاجأ بعد الثانوية العامة بمكتب التنسيق، يختار بناءً على المجموع، لا على الميول أو القدرات أو احتياجات السوق، والنتيجة خريجون بلا شغف، بلا فرصة، وأحيانًا بلا هوية مهنية.
من الضروري أن يبدأ التوجيه من مراحل مبكرة، من الصف الأول الثانوي على الأقل، لتحديد ميول الطالب وقدراته وتوجيهه نحو التخصص الأنسب له وللمستقبل، فلا يصح أن يُختزل مستقبل الشباب في رقم يُكتب في شهادة، بل يجب أن يُبنى على وعي، وموهبة، وتخطيط علمي مدروس.
علينا كمجتمع أن نعيد ترتيب أولوياتنا، لم يعد النجاح مقترنًا بالحصول على 99٪، بل بالقدرة على اتخاذ القرار الصائب، وبذل المجهود الحقيقي، والإيمان بالشغف والتعلم المستمر، النجاح لم يعد له لون واحد، بل أصبح لوحة متعددة الألوان، عنوانها اعرف نفسك، وابنِ مستقبلك على قدراتك لا على توقعات الآخرين.


