أبي الذي لا أعرفه

مات أبي بعد صراع طويل مع المرض بدأ معه منذ وفاة شقيقي الأكبر في يوليو 2011، أي منذ أربعة عشر عاما؛ بالطبع كانت وفاة شقيقي قاسية للغاية خاصة على والديه فقد تركت في تفس كل منهما جرحا غائرا لم تداوِه الأيام والسنين، وضعفت أمي رحمها الله واستسلمت للمرض ومن بعده الموت؛ وكان أبي في أعقاب كل ذلك رجلا صلبا قويا متماسكا، رافضا في شموخ الأقوياء إظهار حقيقة مشاعره ليكون لنا جميعا كأفراد أسرته طاقة للطمأنينة وملاذا للهروب من الضعف.. أي ضعف.

أذكره حينما صمّم على إقامة كتب كتاب ابنة أخي المتوفى في موعده الذي كان قد قرره أخي قبل وفاته بأيام معدودات - وكان هذا الموعد بعد وفاته بستة اشهر - ليحل مكانه كوكيل للعروس في قوة وصلابة جعلتنا جميعًا كافراد أسرته ان نتماسك في ظل غياب الشقيق المتوفى.
وعادت الأحزان تتجدد في عام 2018 ليفقد أمي، وبعدها بأيام معدودات يفقد شقيقه الوحيد، والأمر معه لم يتغير فقد كان صلبًا قويًا كما عهدناه دومًا في تلقيه للصدمات والمصائب القدرية..
إيمان حقيقي راسخ في عقيدة هذا الرجل؛ إيمان بالله سبحانه وتعالى بدون مظاهر دينية تحليت به يا أبي..
شجاعة بحكمة ورؤية ثاقبة تحليت بهم يا أبي..
كبرياء وشموخ وكرامة وأمانة تحليت بهم يا أبي..
ولاء وشهامة كانتا من أهم ما يميزك..
صبر شديد وتحمُّل أشدّ محلي بالأمل في أصعب الأمور التي يراها العامة مستحيلة ويصدق حدسك يا أبي..
كثير من الصفات والسمات الإنسانية اتسم بها والدي لا يتسع المجال إلى سردها؛ ولذلك ومع موته وتحديدا أثناء حضوري لحظة الغُسل نظرت إليه في حزن وانكسار ولم أصدّق عيني أن هذا الرجل القوي قد مات وأنني لن أراه مجددا وأتعلم منه دروس الحياة ومواجهة تقلباتها وقيمه العديدة التي زرعها بداخلنا أنا وأشقائي، لقد مات الظهر والسند والنموذج الإنساني الفريد الذي اتخذته قدوة وسأظل ولا أعرف لماذا قفز في أذني صوت فرانك سيناترا وهو يشدو أغنية أبي المحببة My Way (طريقي) الذي انتهي مع لحظة ربط الكفن واختفاء وجهه.. أحبك للأبد يا أغلى الناس.