معلومات مغلوطة تنتظر إجابة
في حلقة برنامج «الحكاية» التي شرفت بالمشاركة فيها لتحليل الأبعاد الفنية والاقتصادية لأزمة الغاز وتكاليف تشغيل محطات الكهرباء وقصور أسس التخطيط في إدارة وزارة البترول، كان من المقرر مسبقا أن يجري المهندس معتز عاطف، المتحدث الرسمي باسم وزارة البترول، مداخلة هاتفية خلال الفقرة نفسها، بما يتيح تقديم رد رسمي مدعوم بالبيانات والتوضيحات الفنية.
إلا أن ما حدث فعليًا جاء دون المتوقع، إذ اكتفى المتحدث بالنفي المجرد دون تقديم أي رد فني أو أرقام بديلة، بل نفى أصلًا وجود هدر أو حتى تأخير في تشغيل محطات التغويز، وهو ما لا ينسجم مع المنطق ولا مع البيانات الصادرة سابقًا عن وزارته نفسها، وقد آثرت حينها عدم الزج بمستوى الحوار إلى حالة التكذيب أو الجدل غير الفني، إلى أن اعتبرت الوزارة هذه المداخلة -عبر منصتها على فيسبوك- ردًا على ما وصفته بـ«معلومات مغلوطة».
خلال الاستضافة طرحت نقاطًا جوهرية أعلم جيدًا أنها كاشفة لأخطاء جسيمة تستلزم المحاسبة، ورغم ذلك لم تتضمن المداخلة أو منشور الوزارة أي تفنيد علمي أو فني لهذه النقاط، واكتفيا بالنفي والتشكيك دون تقديم سند من البيانات أو الوثائق، وكأن النفي بحد ذاته كافٍ لإغلاق باب النقاش.. من هنا، تأتي هذه الوقفة لوضع الأمور في مسارها المفاهيمي السليم، إذ إن النقاش العام يستحق التمحيص لا التعتيم أو الغلوشة.
النفي بديلًا عن المحاججة
المتحدث أنكر وجود جدول زمني لتشغيل محطات التغويز تم عرضه على القيادة السياسية، رغم أن جزءا منه كان ظاهرا أمامه على الشاشة.. إذ كان الأجدر تقديم نسخة رسمية بديلة - إذا كانت هناك ملاحظات على صحة الجدول- بدلًا من الاكتفاء بإنكار وجوده من الأساس.
وكذلك أشار المتحدث -وله كل الاحترام- إلى أن استخدام الوقود البديل “قصير”، وبالتالي لا يستحق احتساب كلفته بدقة، غير أن هذا الطرح يتجاهل أن استهلاك المازوت تجاوز الحدود التشغيلية الطبيعية، ما يجعلنا أمام نمط تشغيل مستمر ومكلف، لا ظرف طارئ.
والأهم أن تقييم الأثر المالي والفني لا يندرج ضمن اختصاص وزارة البترول بل وزارة الكهرباء، التي تتحمل التكاليف المباشرة (صيانة، أعطال، كفاءة)، والمسلم به أن استخدام المازوت يفرض تكاليف صيانة أكثر من الظروف الطبيعية للمحطات المعتمدة على الغاز.
حتى مع التسليم جدلا بأن التقديرات التي ذكرتها غير دقيقة، فكان من الأجدر تقديم تحليل مضاد وبيانات أدق، بدلا من الحديث بالتشكيك العام، دون تقديم نموذج احتساب بديل أو مرجعية مقارنة، وهو أمر محيّر، خاصة وأن التقديرات التي عُرضت مبنية على متوسطات فعلية منشورة من بيانات الوزارة نفسها وتشير لمتوسط التكلفة في خطة الوزارة وليس بناء على سعر الغاز المحلي كما تم الاقتراض دون سند.
الأدهى أن الحديث عن "ميزانية طوارئ" كمبرر لعدم وجود خسائر يزيح مبدأ المسئولية والكلفة الاقتصادية للفرصة البديلة بسبب عدم توفير بدائل الوقود الأوفر (التغويز) بشكل أسرع، وهو مما يضعنا في موضع "تستيف الورق لا الإدارة الاقتصادية" بحيث يكون المسئول عن خلق مشكلة هو المسئول عن تغطيتها بطلب اعتماد مالي فيصبح كل شيء طبيعي بينما تتحمل الموازنة تكلفة الإخفاق.
ناهيك عن أن القول بأن تأخير تشغيل سفن التغويز “لأسباب فنية ولوجستية” لا يُعفي إدارة المشروع من المسؤولية، إذ أن كل مشروع بهذا الحجم يفترض أن يتضمن تقديرًا مسبقًا للمخاطر الفنية واللوجستية، ويتم إدماجها ضمن خطة التنفيذ ومحاكاة الجدول الزمني (Risk-adjusted Schedule).
وغياب هذا التصور إما يدل على فشل في التخطيط، أو ضعف في الحوكمة، وفي كلتا الحالتين لا يمكن تبريره كتفصيلة تشغيلية عابرة، خاصة مع الاعتبار للتكلفة الناجمة، وأن هناك سوابق في مصر لسفن تغويز تم دخولها الخدمة في ظرف أيام وليس أشهر كما هو الحال حاليا.
تلميع لا معالجة
حين تتحول مناقشة الخلل إلى حملة للدفاع عن الذات، نكون أمام إدارة تُروّج ولا تُعالج، تنكر بدلًا من أن تتحمل المسؤولية أو تعترف بالتقصير وتسعى لمعالجته مستقبلًا، فتجميل الصورة أو محاولة التعتيم لا يصحح الخلل، بل يجعله أكثر تعقيدًا ويصعّب معالجته لاحقًا.
فكل يوم تأخير في دخول محطات التغويز للخدمة له تكلفة حقيقية، وكل طن مازوت إضافي يُهدر الكفاءة ويستنزف المعدات، وكل محاولة لـ«تسكين» النقاش تعني تضخمًا في الفاتورة العامة، حتى وإن سلّمنا -جدلًا أيضا- بأنها ليست في حدود عالية كما ذكرت في الحلقة.
ما طرحته في تحليلي لا يستهدف التشكيك، بل يسعى لترسيخ مرجعيات تشغيلية ومحاسبية تصب في الصالح العام، وتؤسس لأسس إدارة بديهية لكنها تبدو غائبة حتى الآن.
هنا تكمن المكاشفة بحق!
وبما أن مداخلة المتحدث والبيان اللاحق للوزارة لم ينهيا المسألة لا من قريب ولا بعيد، فإني أرى ضرورة أن توضح الوزارة البيانات التالية لوقف الجدل والانتقال من محاولة التعتيم إلى المكاشفة الحقيقية، أيًّا كانت النتائج:
* حساب دقيق لتكلفة التشغيل بالمازوت والسولار خلال الأشهر الأربعة الأخيرة، واحتساب تكلفة الفرصة البديلة مقارنة بالغاز، على أن يتم احتساب أساس التكلفة وفقًا لمستهدفات الإنتاج المُقدرة في فبراير كما عُرضت على القيادة السياسية، لأنها تعتبر أساس المقارنة بدلًا من الصيغ المعدلة أسبوعيًا وشهريًا، حسب واقع قدرات الوزارة بمعزل عن اقتصاد الدولة إذ إن الدول لا تدار يومًا بيوم.
* اعتبار تنسيق تلك الأرقام مع وزارة الكهرباء باعتبارها الجهة المعنية مباشرة بالتداعيات المالية والفنية والمنوطة بإقرار تكاليف الصيانة بشكل خاص.
* مراجعة النسخة الأصلية لخطة مشروع التغويز لتمكين فحص فجوة التنفيذ طبقًا للمخطط وليس التعديلات اليومية، وتحليل أسباب التأخير مقارنةً بمشروعات سابقة مثل محطات التغويز التي تمت بنجاح في عام 2015.
* إقرار أهداف إنتاج كمية وزمنية للزيت والغاز قابلة للمساءلة، بدلًا من الاكتفاء بالبيانات الاحتفالية، خاصة في ظل عدم الالتزام بخطة إنتاج الغاز البالغة 4.4 مليار قدم مكعب يوميًا أو التوقعات الهادفة لاستعادة سابق للإنتاج، وهو ما عمق العجز وسبب جزء غير هين من الكلفة الاقتصادية.
أطالب الوزارة بتوضيح هذه البنود، ووقتها فقط - من الممكن الحديث عن بيانات مغلوطة من عدمه-، فالمكاشفة وحدها هي ما يحفظ ثقة الرأي العام ويعزز كفاءة الإدارة، بعيدًا عن تلميع لن يعالج خللًا ولن يوقف نزيف تكلفة مستمرة.
ختامًا، فإن الاعتراف بالخطأ ليس ضعفًا بل هو منطلق الإصلاح الحقيقي، أما الإنكار فهو ما يضاعف الكلفة ويؤخر العلاج، فالسكوت ليس حلًا، والخلل لا يصح أن يُدار بالبيانات الإنكارية بل بالمساءلة والتصحيح، إذ أن أي خطأ يمكن إصلاحه مهما كان حجمه، أما المكابرة عليه فهي الجريمة الحقيقية بحق المواطن والموازنة أيضا.


