الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

نحن وشات جي بي تي 3: اقتصاد الإدمان في زمن الذكاء الاصطناعي

الخميس 10/يوليو/2025 - 10:20 ص

هل أصبح شات جي بي تي صديقك اليومي، تبوح له بأسرارك، وتطلب منه النصيحة أو حتى معلومات؟ هل تستشيره دومًا وتثق بإجاباته في كل شيء وتأتمنه على الخواطر والانفعالات؟ إذا كانت الإجابة نعم، فأنت لست وحدك. فقد بدأت الأوساط الطبية والعلمية ترصد ظاهرة جديدة تُعرف بـ"إدمان الذكاء الاصطناعي التحاوري"، حيث تظهر على المستخدمين المفرطين أعراضًا تشبه اضطرابات الإدمان السلوكي، مما دفع الباحثين إلى التساؤل: هل ينبغي تصنيف هذا النوع من التفاعل كاضطراب نفسي مستقل يستدعي تدخلًا علاجيًا فوريًا؟

في عالم يتسارع إيقاعه بسرعة تفوق قدرة الأبحاث على اللحاق به، اكتشفت شركات التكنولوجيا سوقًا واعدًا لا يُضاهى في الربحية: سوق الراحة النفسية. فلا حاجة لسنوات من التجارب كما في صناعة الأدوية، فخوارزمية قادرة على محاكاة الذكاء البشري، لتجذب الملايين وتمنحهم شعورًا فوريًّا بالفهم والاحتواء. غير أنّ هذه الطمأنينة، التي تبدو في ظاهرها نعمة، ليست بريئة في جوهرها. إنها مصمّمة بعناية، وتم هندستها نفسيًّا لتُشبع حاجات الإنسان العاطفية والمعرفية، وتُعيد تشكيل وعيه دون أن يشعر.
إنها صفقة غير متكافئة: يحصل المستخدم على راحة مؤقتة، بينما تحصل الشركات على بياناته وولائه وربما إدمانه.

اقتصاد الراحة سلعة

لقد غيّرت الرأسمالية الرقمية من طبيعة ما يُعرض في السوق: لم تعد تبيع منتجات مادية، بل تبيع حالات ذهنية، وشعورًا بالذكاء والانتماء والفهم. وفي هذا السياق، لم يعد يُقاس النجاح بعمق المعرفة أو صدقها، بل بمدى الإشباع اللحظي الذي تُقدّمه الأداة. وهكذا لم يعد الذكاء الاصطناعي يُنتج معرفة، بل يُنتج راحة ذهنية تُحوّل الإنسان إلى مستهلك دائم للوهم المريح. لقد تحوّل طلب المعرفة من رحلة شاقة تتطلّب صبرًا واجتهادًا، إلى استهلاك سريع لإجابات جاهزة، تُقدَّم بلا عناء وتُستهلك بلا مساءلة.أي على نمط الوجبات السريعة.

اقتصاد البيانات

شات جي بي تي لا يمثل نموذجًا لغويًا فقط. إنه بنية ثقافية نفسية، وآلية لدمج الذات ضمن اقتصاد لا يبيع منتجات، بل يُعيد برمجة الوعي في زمن ما بعد الحداثة الرقمية. إنه ملاذ خالٍ من الغموض، مساحة خالية من الصراع، من الحاجة إلى التفكير. وهكذا يتحوّل الوعي من دور فاعل إلى متلقٍ، ومن نقد إلى استهلاك، فالذكاء الاصطناعي لا يُحرر الإنسان من الجهل، بل من عبء التفكير.

كل تفاعل لك مع "شات جي بي تي" هو مساهمة في تدريب النموذج وتحسين أدائه. فأنت تقدم بياناتك مجانًا أي اهتماماتك وأسلوبك في التفكير وحالتك النفسية وحتى أخطاؤك. لتستخدم هذه البيانات في تطوير نماذج أكثر ذكاءً، وأكثر قدرة على جذبك بل وإدمانك. وهكذا تتحول إلى عامل غير مدفوع الأجر في أكبر مصنع بيانات في التاريخ.

النموذج الاقتصادي الجديد: قلب المعادلة

في الاقتصاد التقليدي، كانت الشركات تشتري المواد الخام، تصنع المنتجات، وتبيعها للمستهلكين. أما اليوم، فأنت كمستخدم تُقدم المواد الخام (البيانات)، وتدفع مقابل استخدام المنتج (الاشتراك)، وتُباع بياناتك لاحقًا لشركات أخرى. أي أنك في الوقت ذاته: العامل والمستهلك والمنتَج. إنها معادلة مقلوبة، وربما أكبر عملية استغلال منظم في العصر الرقمي، لكنها مموهة بذكاء تحت شعار عصر الذكاء الاصطناعي، والغريب أن الجميع سعداء بهذه الصفقة!

تابع مواقعنا