خطبة الهدهد.. من سبأ بنبأ
منذ سنوات لا أعرف عددها لم أنجذب وأترك ما بيدي لأستمع بإنصات واهتمام لخطبة الجمعة المذاعة على التليفزيون الرسمي كما فعلت اليوم الجمعة 11 يوليو.
لا أنقطعُ عن عادة فتح التليفزيون أثناء خطبة الجمعة وإشعال البخور في إرجاء البيت كما كانت تفعل أمي وجدتي، لكنه حرصٌ على التقليد والطقس الظاهري فقط بينما أظلُّ منغمسة فيما أفعل وأنا أختلسُ كلمة من هنا أو هناك من موضوع الخطبة.
أعتقد بإيماني الشخصي الخاص أن واحدًا من الأهداف الأساسية لخطبة الجمعة هو جمع المسلمين حول موضوع يهمّهم أو يشغلهم حسب اختلاف المكان والزمان، بل إنها تلعب أدوارًا اجتماعية هامة مضافة إلى الدور الإسلامي.
فخطبة الجمعة في قرية تتعرض بناتها للتزويج المبكّر أو قرية يموت فيها الأطفال في المصانع الكيماوية التي يلحقهم بها آباؤهم ستختلفُ حتمًا عن الخطبة في مجتمع مُنعَّم يسكنه ميسورو الحال فربما وجب تذكيرهم بأهمية إخراج الزكاة والصَّدَقة أو تعليم أبنائهم حدود العلاقة بين الشباب والبنات في سن المراهقة وضرورة احتواء الآباء لأبنائهم ومراعاة مراحلهم العمرية، كل هذا تحت المظلة الكبيرة للدين وهي درء المفاسد وجلب المنافع في إطارات صغيرة تحددها متغيرات الزمان والمكان والتشريح السكاني والاجتماعي.
ربما تكون هذه هي الأسباب التي جعلتني أشعر منذ سنوات أن خطبة الجمعة العامّة لا تخاطبني بذاتي وأنني أجد طريقي الخاص إلى أي تذكِرة أحتاجها أو فتوى أو معلومة بعيدًا عن هذا الخط التقليدي الذي لم أعُد أرجو منه غير الطقس الأسبوعي.
لكنني اليوم توقفتُ تمامًا أمام الخطبة المنقولة على التليفزيون المصري من الجامع الأزهر الشريف للشيخ الدكتور إبراهيم الهدهد الرئيس الأسبق لجامعة الأزهر، تحدثت الخطبة عن "السَّعي"، عن تمام التوكُّل والأخذ بالأسباب دون ربط السعي بحتميّة النتيجة شرحًا لما يُسمّى بـ "عبادة الأسباب" وهو مفهوم إيماني عميق يعني الانتقال من التعلُّق بالله وبإرادته في تحقيق مُراده إلى التعلُّق والتعويل على السببية وأن هذه السببية ستؤدي حتمًا للنتائج المرجوّة دون اعتبار ليدِ الله التي تحرُّك أيّ شيء في أيّ أتجاه سواء مع إظهار الحكمة من ذلك أو حجبها.
الموضوع يبدو بسيطًا وواضحًا، لكنه في رأيي موضوع هام لسبيين؛ الأولى هي ملاءمته التّامة لحالة غلاء الأسعار والضغوط الاقتصادية التي تمرّ بها الأسرة المصرية والتي تلمسها جميع الطبقات الاجتماعية ولا تخفى على أحد، وهو تغيُّر واضح وانتقال واعي من الخطابِ المُحبِط عن الزُّهد والتقشُّف إلى خطاب الأمل والسعي وتكرار المحاولات مع التعلُّق بمُسبب الأسباب وليس الأسباب نفسها. السبب الثاني هو أنها خطبة إنسانية إصلاحية وتذكِرة أساسية يحتاجها الإنسان في عموم رحلته البشرية أيًا كانت اهتماماته أو توجهاته الفكريّة.
لا أريد أن أستفيض في تكرار ما جاء بالخطبة لكنني أردت أن أخصص هذه المساحة لتقديم الشكر للدكتور إبراهيم الهدهد هذا العالِم المُدرِك لأهمية المنبر والذي لديه من المرونة اللغوية والعمق والتمكُّن العلمي ما يجعله أهلًا للهدف الأهم الأسمى من تقديم الموعظة الأسبوعية، وأوقن كذلك أنه على هذه الدرجة الرفيعة من العلم وفصاحة الخطاب إن خطب عن السعي أو خطب عن أحقيّة الأطفال في عيدية العيد أو عن معاملة الزوج للزوجة، فالمنهج العلمي واحد والفصاحة اللغوية واحدة.


