إذما.. تداوٍ بالماضي أم هروب من الحاضر؟
غالبا ما يكون الماضي ذكرى مؤلمة وأحيانا مزعجة، ويكون الحاضر أفضل حالا مما سبق، ونسمع كلاما من قبيل إن حاضركم أفضل من ماضينا، أنتم تملكون ما لم يتح لنا، وهلم جرا..
لكن تخيل معي أن يكون الماضي هو دواؤك، بل وتكون أنت طبيب نفسك ومخلصها ومنقذها، كأن شخصا ميتا بعث لك لكي يذكرك أنك ما زلت حيا، وأن الموت الذي أصابك ما هو إلا شيء مؤقت، والقادم أنت مَن تجعله أفضل ولكن ليس وحدك.
حينما يكون بجانبك مَن يحبك ويحفظ لك صداقته وإن تقدم به العمر، فالصديق هو من يقف معك في أحلك الليالي وأشد اللحظات حرجا في حياتك، ولا أعلم هل كان عيسى سينجو إن كان وحيدا أم لا؟
رواية إذما للكاتب والسناريست محمد صادق، ذلك الرجل الذي عاد إلى ذاكرتي بعد أكثر من 10 سنوات من قراءتي روايته "بضع ساعات في يوم ما" حينما كنت في المرحلة الإعدادية، عن طريق هذا العمل البديع، واسم إذما هو أداة شرط تجزم فعلين، مثل: إذما تعرفْ تجدْني، والرواية ترتبط روحيا بـ أداة الشرط الجازمة إذما، إذ إن البطل في العمل الروائي يفشل بدونها كما سيعلم القارئ عند مطالعة العمل الروائي.
يحكي العمل قصة عيسى عبد الآخر العسال، رجل في الـ 36 من عمره، يعمل موظفا بأحد البنوك، يعاني مرضا نادرا ويمر بأوقات عصيبة خاصة بعد طلاقه من زوجته أسماء التي أحبها، وفُتِن بها حينما رآها لأول في الجامعة، رغم أنها كانت مطلقة قبل زواجهما، وكانت علاقتهما على مدار 3 سنوات غير صحية يتخللها كثير من اللحظات المأساوية كمحاولة انتحارها بين يديه بعد إحدى المشاجرات بينهما.
وفي أحد الأيام وبينما هو يقاسي كل هذه الآلام، يصل هاتفه رسالة من رقم غريب، ليجدها سيرا البنداري صديقة الطفولة والممثلة الشابة الرائعة، التي تقاسمه البطولة خلال أحداث العمل، لكي تخبره أنها "نفذت الوصية" بعد 18 عاما كما طلب.
منذ 18 عاما حينما كان عيسى والذي يدعوه أصدقاوه بالـ الشواف، نسبة إلى الشخصية المسرحية التي لعبها الفنان الكبير محمد صبحي، في المرحلة الثانوية، قرر أن يسجل 9 مقاطع مرئية ومع كل فيديو أسماه الكنز يأتي أمر يجب عليه تنفيذه لكي يساعده على تجاوز محنته التي توقع ذلك الشاب المراهق أنه وبحلوله منتصف العقد الرابع من عمره - أي بعد 18 عاما كما خطط - سيفقد كثيرا من شغفه وستتأكل روحه، والأمر ليس من قبيل الروحانية أو الصدفة، ولكنه توقع هذا بسبب مرضه النادر الذي يؤثر على ذاكرته، وعلى بدنه بطريقة غير مباشرة.
والعمل يتكون من 21 فصلا موزعين على 9 فصول باسم الكنوز و9 باسم الأوامر، وفصول تحمل أسماء أخرى، ومع كل فصل يذيل بعتبة روائية تحمل أبياتا من أشعار الشاعر والكريكاتير الراحل صلاح جاهين، ولها دلالة كبيرة ليس في مضمون الفصل، ولكن في شخصية عيسى الذي كان متيمًا بأشعار صلاح جاهين حينما كان صغيرا، إذ يراها معبرة عن شخصيته بل وعن الحياة كلها، ففي رأيه أن جاهين هو أفضل من عبَّر عن الناس وهمومهم.
وقد عهد إلى صديقته سيرا بهذه الكنوز التسعة، التي لا يسعى فقط أن يرها عيسى الكبير على طريقة كبسولة الزمن، ولكن لكي يساعده في إخراج أول فيلم تسجيلي له محققًا حلمه في أن يكون مخرجا مشهورا، حيث يكون عيسى الصغير في مواجهة عيسى الكبير، ومعه أيضا أخته وأصدقاؤه كما سيأتي في أحداث العمل.
من هنا تبدأ أحداث العمل في الانطلاق، حيث نرى حربا ضروسا بين مثالية الماضي وسوداوية الحاضر، وحربا أخرى بين الحياة والموت بأشكاله كافة سواء أكان حقيقيا أو معنويا، غير تناول العمل لفلسفة الخوف الذي يجعلنا ضعافا ويأخذ بيدنا إلى كل أشكال الضعف والهوان.
إن الخوف بمعنى الانزواء والانسحاب هو من أضعف عيسى طوال أحداث العمل بل وبعض أصدقائه كذلك، مثل: آن تلك الشخصية التي يعذبها الماضي مُمثلًا في والدها إلا أنها لا تسعى لعقاب أحد غير نفسها ولها دور كبير في أحداث العمل وتعد من أعز أصدقاء عيسى، أم الخوف على الأشخاص الذين أحبهم الشواف مثل سيرا وأسماء ووالديه، في تلك الحالة كان إيجابيا، إذ كشف له أن الهروب في تلك اللحظة يعد أنانية، وهو من كان دائما يسعى لإعطاء كل شيء مقابل أن يجد الفرح ولو خلسة.
كما يتطرق العمل منذ بدايته حتى نهايته إلى مفهوم الحب، ما هو الحب؟ هل هو مفهوم بيولوجي أم فسيولوجي؟ وهل الحب هو مؤسسة صارمة يحكمها المجتمع باسم الزواج؟ ولماذا لا يعيش الإنسان الحب بطريقته وأسلوبه وقانونه الخاص؟ وهذا يذكرني بآراء سارتر عن الزواج والارتباط.
في العمل ينتصر الكاتب لفكرة أن الحب أكبر من كل مفاهيم المجتمع، وأن الحب لكي يكون حبا عليه أن يكون حرا، أن يكون كل رجل وامرأة هما سيدا القرار لا ينازعهما فيه أحد، فهي دعوة لتحرير الحب، وأصدق ما يعبر عن هذا استشهاد الكاتب في عتبة الفصل الـ 5 المسمى الأمر الثاني بقول الراحل صلاح جاهين:
ورا كل شباك ألف عين مفتوحين
وأنا وأنتي ماشيين يا غرامي الحزين
لو التصقنا نموت بضربة حجر
ولو افترقنا نموت متحسرين..
عجبي!
وتُبنى فلسفة العمل على مقاومة كل أسباب اليأس والانهزام، ووضع هدف للبطل من أجل الوجود والبقاء، هذا ما أعطاه عيسى الصغير لـ عيسى الكبير، وكان الدافع له على مدار صفحات العمل لكي يواصل رغم يأسه المستمر، ومن ضمن مشاهد العمل مثلا:
قال عيسى الصغير، وهو جالس على الكرسي، باستمتاع كعادتنا كلما تحدثنا عنه:
- عمك جاهين قال: عجبي حواليك مخالب كبار.. وملكش غير منقار.. وقادر تعيش..
ثم ابتسم وهو يشرد قليلا، وقال:
- أنا وأنت يا عيسى حوالينا حاجات كتير بتحبطنا قوي.. مخالب كبيرة من الإحباط والقرف.. بس منقارنا أنا وأنت اللي مخلينا نعيش حلمنا.. الموهبة اللي ربنا كرمنا بيها.. لو سبتها أو نسيتها صدقني..
وصمت لحظات ناظرا إلى سقف الحجرة:
- عمرنا ما هنعرف نعيش..
نلاحظ أنه يخاطبه بصيغة «أنا وأنت» كأن شخصًا يحدث شخصًا آخر، وربما يعتقد القارئ أنه أمر طبيعي لفتى يسجل مقطعا مرئيا لنفسه، ولكن الحقيقة أن رمزية هذه الجملة القصيرة تكمن في أن بطل العمل عيسى الكبير لا يذكر عيسى الصغير جيدا، بل لا يتذكر متى صوّر هذه المقاطع أو متى عهد بها إلى سيرا، وكثير من الأمور لم يتذكرها إلا عن طريق عيسى الصغير.
الغالب على هذا العمل هو استدعاء نوستاليجا بداية الألفية الثالثة، التي كانت حاضرة بشدة في الموسيقى وفي الأداوت والآلات التي سيأتي ذكرها في العمل، وليس مجرد استدعاءٍ فقط، بل هو عودة بالماضي عبر الرسالة المصورة التي تركها عيسى الصغير لـ عيسى الكبير لكي يساعده في تحقيق حلمه والتأكد أنه ما زال يذكره، فنحن نرى خطا فاصلا بين الماضي والحاضر، ماضٍ يطمئن على المستقبل، وحاضر يئن من غياب الرحمة والعدل، ويشكو المجهول القادم متمثلا في المستقبل.
تخيل أن تفقد ماضيك فيعود إليك بطريقة ما مثلما فعل عيسى لكي يكون سببا في حلّ كثير من مشاكله، وتخيل أيضا أن تحاول الهروب من الحاضر، لكن تكتشف أن هروبك ليس حلا وأن الهروب لا يفضي إلا إلى هروب آخر، وهذا ما نراه، حينما أحس عيسى بشيء يشبه الاحتضار كما في الفصل الـ 18:
شعرت بجسدي يرتجف.. ولم أقاوم..
تعبت..
أريد أن أستسلم..
أن تحيا دائما بين تفاؤل الأمل والبداية الجديدة، ويطاردك ألم الماضي ليحبط هذا الألم، إحساس مرهق..
ألقيتُ جسدي على الأرض.. ونمت على جنبي.. وظللت أرتجف.. ستموت وحدك يا عيسى..
ثم بعد ذلك يتمالك نفسه ويحس أن الاستسلام قد ولى ويجب عليه أن يقاوم بعد أن أحس أنها نوبة قلبية هو الوحيد القادر على إخمادها:
بدأت أضرب رأسي بيدي بقوة حتى تخرس الأفكار اللعينة..
لن أخاف ثانية..
لن أدع الخوف يسيطر عليَّ ثانية..
سيمر كل شيء..
بهذا اختر بطل العمل أن يكمل ما بدأه وألا يستسلم ويكمل مشروعه الذي بدأه صحبة رفيقة دربه سيرا التي تشبهه كثيرا في إيمانها بالحرية بعيدا عن أي قيد اجتماعي وتكره المسؤوليات التي تأتي بلا هدف.
بعد أن هدأ عيسى عقب تشغيل أغنية تساعده على استعادة اتزانه، وجد فلاش مموري تحمل الأمر الثامن والذي ستتسارع معه أحداث العمل، إذ ستتكشف أمور كانت غامضة طوال صفحات الرواية، حتى نصل إلى النهاية ومعها نعرف هل نجح عيسى أم فشل؟
وختاما وعلى الجانب الشخصي البحت، هذه الرواية بكل ما تحمل من أفراح وأتراح وانتصارات وهزائم، وسعادة وتعاسة، أحالتني إلى أغنية بحر الحياة للفنان محمد منير، والتي من كلماتها:
بحر الحياة غدار واحنا لفين رايحين
شايل معاه الأسرار واحنا معاه ماشيين
........
وبلاش نستسلم يوم للحزن ما دام عايشين
......
اضحك للدنيا الفرحة هتيجي في غمضة عين


