لحضرة الإعلامي من حضرة المواطن
في عصرٍ أصبح فيه الصوت الإعلامي أكثر نفوذًا من أي شيء آخر، بات من الضروري أن نقف وقفة صدق أمام ما يُعرض على الشاشات. فما يُقال ليس مجرد كلمات عابرة، بل هو ما يشكّل وعي آلاف من الناس، ويُرسم من خلاله مصير الكثير من الشباب.
ومن هنا، أكتب لا بصفتي كاتبًا فقط، بل بصفتي أحد خريجي دفعة طب أسنان 2023، تلك الدفعة التي تضمُّ صفوفها أكثر من 12 ألف طبيب ما زالوا ينتظرون قرار التكليف الذي لم يصدر حتى الآن، بينما تمر الأيام وتزداد الضغوط، دون أفق أو إجابة.
في الأيام الماضية، ظهرت مشكلة حقيقية للنقاش، حين تحدّث الدكتور وليد الديب – وهو طبيب أسنان معروف ونقيب أطباء الأسنان بالنقابة الفرعية بالإسكندرية، وصاحب تجربة طويلة ومصداقية لدى زملائه وطلابه عبر وسائل التواصل الاجتماعي محذرًا الأهل من الاندفاع الأعمى نحو كليات طب الأسنان، تحذيره لم يكن تقليلًا من قيمة المهنة، بل إنذارًا شريفًا بأن الواقع تغيّر، وأن الدخول إلى الكلية اليوم لم يعد كما كان منذ عشر سنوات.
فالسوق أصبح مشبعًا، والتكليف اختفى تقريبًا حتى الآن -ونتمنى أن تكون رؤيتنا خاطئة-، وفرص التدريب العملي الناضج أصبحت محدودة، والمستقبل الوظيفي ضبابي لكثير من الخريجين، إن لم يكونوا من أصحاب العلاقات أو الإمكانيات الخاصة.
لكن المشكلة لم تكن في ما قاله الدكتور وليد، بل في الطريقة التي نوقش بها كلامه في مكالمة هاتفية عبر برنامج تلفزيوني مع أحد المذيعين.
كان لابد من فتح مساحة حقيقية للحوار، فبدلًا من الاستماع إلى شهادته باعتباره طبيبًا داخل المجال يرى الأمور من الداخل، اختار المذيع أسلوبًا هجوميًا مباشرًا، أقرب للتقريع منه إلى الحوار. فكانت العبارات متلاحقة، ضاغطة، تُقال بنبرة حادة:
"ادخل في الموضوع"، "قول بسرعة"، "باختصار علشان الوقت"، وفي بعض اللحظات بدا كأن الضيف يتلقى اللوم على كلامه، لا يُستَضَاف من أجل مشاركته.
حتى تعبيرات الوجه، إشارات اليد، وطريقة المقاطعة المتكررة.. كل ذلك أظهر المشهد وكأن الدكتور وليد يُحاسَب على جُرمٍ لم يرتكبه، بدلًا من أن يُستمع إليه كصوت يمثل آلاف الخريجين الواقفين حائرين أمام مستقبل بلا ملامح.
من تجربة شخصية... هذه ليست مبالغة
أنا لا أتحدث من الخارج. قبل أن أكتب هذه الكلمات، أنا ابن هذه الأزمة، من داخلها، أعيشها يوميًا. أنا من دفعة طب الأسنان 2023، وما زلت، مثل آلاف الزملاء، في انتظار التكليف.
نحن نتخرج بتعب السنين، بشهاداتنا، بأحلامنا، لنجد الأيادي المنوطة بمساعدتنا بعيدة، والسوق مشغول بنفسه، والإعلام أحيانًا يسطّح قضايانا.
أين نذهب؟ كيف نبدأ؟ هل نصبر أم نهاجر؟
أسئلة لا تتوقف. وما قاله الدكتور وليد ليس سوى محاولة جريئة لوضع هذه الأسئلة أمام الرأي العام.
فهل جزاءه أن يُعامل كمحبط؟ هل المطلوب أن نُزيّف الواقع لتظهر الصورة على أبهى ما يكون؟ هل نُخفي المعاناة ونستعرض واجهة مزيفة للناس؟. هل أصبح من العيب أن نحذر الأهل من قرارات قد تظلم أبناءهم؟
الإعلام دور ومسؤولية
الإعلام ليس منصة للعرض فقط، بل مسؤولية. الإعلامي الحقيقي يُنصت قبل أن يتكلم، يُفسح المجال قبل أن يُصدر حكمًا، ويطرح الأسئلة ليضيء الطريق.
ما حدث في هذا اللقاء كان عكس ذلك تمامًا، فقط تحجيم لكلمات صادقة خرجت من قلب الطبيب إلى ضمير المجتمع.
ما فعله الدكتور وليد الديب هو أداء لدور طبيب صادق يحترم تجربته ويحب بلده، وما كان يجب أن يُقابل به هو حوار ناضج، ومجال مفتوح، واستماع متبادل.
الكلمة الأخيرة... من الجرحى في الميدان
نحن لا نطلب تعاطفًا، بل نطلب إنصافًا.
لا نريد تهويلًا، ولا تهوينًا، بل فقط أن تُقال الحقيقة كما هي، وتُفتح الأبواب أمام الحلول لا أمام الهجوم.
وللإعلاميين أقول: أنتم أمامكم منابر عظيمة، فاصنعوا منها صوتًا للناس بحق.
ما قاله أحد الحكماء منذ قرون لا يزال صادقًا: "الرحمة بلا حق ضلال، والحق بلا رحمة قسوة." ونحن نحتاج الاثنين. الرحمة في أسلوب الحوار، والحق في تشخيص الواقع.


