الأحد 07 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

نعم يا زياد.. لم تكن يومًا كافرًا

الأربعاء 30/يوليو/2025 - 12:04 ص

أتاحت لي إحدى الوظائف التي شغلتها سابقًا، الاشتراك في ترتيب ومتابعة فعاليات فنية وثقافية عدّة، وكانت أكثر لحظات استمتاعي بأي فعالية تحدث في هذا المكان هي لحظات البروفات الأخيرة على خشبة المسرح قبل العرض مباشرة، كان يشعرني بالتميُّز أن أستمع إلى الفنان وهو "يعدّل" طلباته في الصوت والإضاءة ويضبط صوته والميكروفون الخاص به، وأن أقف مع قلّة قليلة من العاملين في المكان في نهاية القاعة التي تستعد لاستقبال الجمهور، ثم نختفي جميعًا ونتمركز في أماكننا حين يدخل الجمهور وتزدحم القاعة.

بدأتُ عملي في ساقية الصاوي، واحد من أشهر وأهم المراكز الثقافية في هذا الوقت وأكثرها تأثيرًا، في العام 2009، في البداية كنت أترجم النشرات الإخبارية التي تُخرجها الساقية للصفحات الأدبية في الإصدارات الأجنبية، ثم التحقتُ بالمكتب الإعلامي للساقية ثم أصبحت مديرة المكتب الإعلامي، أقوم بترتيب التغطيات الصحفية والتليفزيونية للمؤسسات التي ترغب في تغطية فعاليات المكان.

في العام 2009 أطلقت ساقية الصاوي مهرجانها الدولي الأول لموسيقى الچاز بالتعاون مع الفنان هاني عادل، وفي الدورة الثانية للمهرجان في العام 2010 تضمن البرنامج حفلًا للراحل زياد الرحباني. 

كان من عادة ساقية الصاوي أن تقدم الحفلات التي يُتوقّع فيها عدد كبير من الجمهور في القاعة المطلّة على النيل، وعلى هذا كان حفل زياد مطلًا على النيل.

القاعة تضجّ عن آخرها بالجمهور، الجميع في الانتظار يدندنون بأحبّ الأغنيات إليهم كأنما هم أيضًا في بروڤة إلى أن ظهر الرجل، يبدو مهيبًا رغم نحولة جسده، لكنه يبدو مألوفًا كأنه جارٌ في البناية التي تسكنها اعتدت أن تلقي عليه السلام في الطلعة والنازلة، أو ربما هو مدرّس موسيقى في إحدى المدارس التي دخلتها لكنك لا تعرف عنه أكثر من صوته داخل الحصّة. كان ينتبه بكلّيته إلى كل شركائه على المسرح، لا تشعر حين تشاهده في هذه الملابس التي يغلب عليها الألوان الداكنة بأنه الأشهر أو الأكبر سنًآ مثلا أو الأهم أو.. أو.. أو.. يجعلك تشعر وأنت تشاهده من القاعة بأنك أيضًا شريكه فيما يقدّمه الآن في هذه اللحظة لأجلك. فالجمهور يرتفعون بأصواتهم يطالبونه بما يحبّون وهو واسع الصدر متفاعل سعيد باستقبال المصريين ومحبّتهم خاصة في هذا التوقيت المثالي التي كانت مشاعر المصريين متأججة ضد الظلم وضد الأوضاع السياسية. فبعد هذا الحفل بأقل من عامٍ واحد ستقوم ثورات الربيع العربي وتتغير معالم البلدان العربية التي عرفناها صغارًا، ويصير صوت زياد الرحباني جزءًا من غناء الميادين بكلماته الثورية وموسيقى الچاز التي أعتبرُها أداة أخرى من أدواته الثورية: أنا مش كافر بس الجوع كافر.. بس المرض كافر.. بس الفقر كافر.. أنا مش كافر هيدا أنت الكافر.

مرات قليلة تلك التي ذهبتُ للفنان “أي فنان” قبل أو بعد الحفل لالتقاط الصورة، فقبل الحفل أقدِّرُ التحضير والانشغال وبعد الحفل أقدِّرُ الإنهاك الذي أراه بعيني وأُفسحُ مجالًا لضيوفنا الجمهور فنحن -العاملين- كنّا نرى أنفسنا دائمًا أصحاب مكان وهي إحدى الميزات التي أسست عليها ساقية الصاوي تاريخها وانتشارها ومكانتها في قلوب الشباب. في ليلة زياد لم أقترب وفضّلتُ كوني صاحبة مكان يغني فيه الآن زياد الرحباني بجلالة قدره.

وأنا أشاهد جنازته عادت بي الأيام سريعًا إلى وقفته المهيبة القوية الثورية على خشبة المسرح، ودمعت عيني على فراقه وأنا لم يربطني به غير هذه المرّة، ودمعت عيني حزنًا على السيدة فيروز. لم أرَ فيها هيبة حُزن ولا قوة شكيمة؛ رأيت الهدد، انعدام القدرة حتّى على البكاء. رأيت أُمًا تودّع ابنها بنصف وعي ونصف تركيز مع مَن حولها. وصفها بالهيبة كاختيار مُتعَمّد في مُصاب كهذا هو سلب لحقّها في البكاء والصراخ.

ودّعت فيروز زياد، وودّعناه جميعًا بدموع صادقة ثم عُدنا سريعًا في حالة من الإنكار إلى تطبيقات الأغاني على الهواتف نسمع "ميس الريم" و"بحبك ولا شي" و"كيفك أنت" و"أنا مش كافر".. نعم يا زياد.. لم تكن يومًا كافرًا.

تابع مواقعنا