الإثنين 08 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

كفاءة رغم التعليم: كيف ينجح المصري رغم تعليمه؟

الخميس 31/يوليو/2025 - 11:18 ص

بمناسبة بدء موسم التنسيق والقبول الجامعي، واندفاع الأهل والطلاب لضمان فرصة تعليمية أفضل لأبنائهم تعينهم لاحقا في الحصول على وظيفة يبدؤون من خلالها حياة تملؤها الأحلام والطموح، بيد أن الناظر للأمور على مختلف جوانبها يكتشف أن المسألة أعمق من اختيار فرصة تعليمية أفضل أو مستقبل أضمن متعديًا ذلك لحالة هيكلية ممتدة تعاني منها المنظومة التعليمية.

ورغم كل ما يعانيه النظام التعليمي في مصر من ترهل، وتخبط في الرؤية، وبعدٍ متزايد عن الواقع المعرفي والعلمي العالمي، يواصل المصريون -فرادى- إثبات كفاءتهم في ميادين شتى، محليًا وعالميًا.

ولا يغرنك في هذا عزيزي القارئ دخول هذه الجامعة أو تلك في التصنيفات العالمية، وإن دخلت أصلا دخلت متذيلة نظيراتها الإقليمية المفارقة الصادمة والمستمرة أن النجاح لم يعد يُحسب لنظام التعليم، بل يُحقق رغمًا عنه، من طالب ينجو من الحشو والامتحان العقيم إلى باحث يضطر للهرب بموهبته إلى بيئة تُقدر المعرفة، تتكرّر القصة ذاتها: الكفاءة تُولد، لكن لا تُرعى في وطن يتجاوز 100 مليون متخم بالكفاءات والمواهب الحائرة، وهكذا تتحول المدرسة إلى عبء، لا دافع، وتغدو الجامعة محطة رمزية لا حقيقية في مسار التكوين المهني أو المعرفي، لتتحول الشهادة الجامعية لمتطلب شكلي للزواج أو الوجاهة الساذجة، فهل يمكن إصلاح تعليمٍ يبدو وكأنه لا يريد أن يُصلَح؟ وهل نمتلك الجرأة لطرح السؤال الصعب: لماذا تنجح العقول المصرية فقط حين تتحرر من نظامها التعليمي؟.

 مفارقة النجاح الفردي وفشل المؤسسة


إن من يتأمل المشهد المصري يرى عقولًا لامعة تُضيء في مواقع متعددة، من شركات التقنية العالمية إلى جوائز البحث العلمي، ومن ريادة الأعمال إلى التميز في الطب والهندسة والفنون، لكن اللافت أن هذا النجاح لا يُعزى غالبًا إلى جودة التعليم الذي تلقاه هؤلاء، بل إلى اجتهادهم الشخصي، أو إصرارهم على تجاوز ما تلقنوه في المدرسة والجامعة.

والمنظومة التي كان يفترض أن تصنع الكفاءات أصبحت تعرقلها، فتحول التفوق الفردي إلى فعل مقاومة، لا نتيجة طبيعية، وكأن كل ناجح في مصر يحكي ضمنًا قصة صراعه ضد تعليم لا يعلّم.

 
مشكلات هيكلية في التعليم المصري


القضية لا تتعلق فقط بضَعف الإمكانيات، بل بالأفكار والتوجهات التي تحكم المنظومة التعليمية، لدينا تعليم ما زال مهووسًا بالحفظ والتكرار، أو بالمحاكاة السطحية لمعايير تجويده، بينما العالم يتحرك منذ عقود نحو الإبداع والتحليل والتفكير النقدي، والمفارقة أن مشكلة التعليم في مصر مستمرة منذ عقود طويلة ليس أبلغ ما يدل عليها ما كتبه الأستاذ الإمام محمد عبده في عام 1885 في لائحة إصلاح التربية في مصر، ولائحة إصلاح التعليم العثماني، فلا زالت المناهج مفصولة عن سوق العمل رغم سعي المسؤولين عن التعليم إلى تطويره بتدشين الجامعات التكنولوجية والأهلية والدولية، إلا أن مسح ميداني بسيط يكشف عن أننا لا نهتم -مجازا- بالعلم إلا تحت ضغط الامتحانات، والمعلم غالبًا مهمل مهنيًا وماديًا، والجامعات بدورها باستثناءات محدودة تحوّلت إلى مراكز للنجاح الورقي أكثر من كونها معامل حقيقية للمعرفة والابتكار.

 فالتعليم في مصر بات أداة لضمان الحد الأدنى من الوظيفة، لا وسيلة لفتح أبواب الإمكان، وهو ما عبر عنه العديد من المسؤولين عن التعليم بمصر في مناسبات مختلفة.


الكفاءات تنجح خارج السياق


تظهر هذه الفجوة بوضوح عند المقارنة بين أداء كثير من المصريين في الخارج، مقابل واقعهم داخل البلاد. بمجرد أن يُمنح المصري فرصة تعليمية حقيقية، أو بيئة معرفية تحترم جهده، يبدع بسرعة لافتة.

ونجاح المهندسين والأطباء المصريين في الخليج، وتفوق الباحثين المصريين في أوروبا وأمريكا، مثال صارخ على كفاءة كامنة كانت مكبوتة داخل منظومة لا تملك الأدوات ولا الإرادة أحيانا لاكتشافها أو دعمها، بل يمكن القول إن التعليم الذاتي، أو الاعتماد على الإنترنت والدورات غير الرسمية، أصبح لدى كثيرين بديلًا عن تعليم رسمي لا يواكب حتى حاجاتهم المباشرة، وليس أبلغ من ذلك صديق حصل على 4 براءات اختراع أوروبية في العلوم الصيدلانية، ولا يعلم عنه أو لا يرغب أن يعلم عنه الكثيرين خوفا من عرقلة مسيرته أو اعتقادا في أنه لن يحصل على التقدير المناسب له في وطنه، وهو نموذج لعشرات – إن لم يكن المئات- من الباحثين المصريين حول العالم.

والأخطر من كل ما سبق أن التعليم لم يعد مجرد مشكلة، بل أصبح عائقًا أمام التغيير، حين يُستخدم الامتحان وسيلة للعقاب، لا للتقويم، وحين تُربط الشهادات بمكانة اجتماعية لا بمهارة حقيقية، يصبح التعليم مؤسسة لإعادة إنتاج الجمود. 

ولم يعد كثير من الطلاب يتعلمون حبًا في المعرفة، بل خوفًا من الرسوب أو حرصًا على شهادة لن تعني شيئًا في سوق العمل، وهكذا ينفصل النجاح التعليمي عن النجاح الواقعي، ليصبح الأول مجرد صدى شكلي لا يُسمع له صوت في العالم الحقيقي.
 

هل يمكن أن نصل إلى كفاءة بفضل التعليم؟


لقد أثبت المصري مرارًا قدرته على الإنجاز، لكن يبقى السؤال: متى نكف عن الاعتماد على "الاستثناءات"؟ متى نبني تعليمًا يصنع الكفاءة بدلًا من أن يخذلها؟ المطلوب ليس فقط إصلاح المناهج أو تحديث التكنولوجيا، بل إعادة تعريف التعليم نفسه: كقيمة، كممارسة، وكرافعة للإنصاف والنهضة، حينها فقط يمكن أن تتحول قصص النجاح الفردي من ظواهر متفرقة إلى نتائج ممنهجة، ومن مفارقة محزنة إلى سياسة وطنية.

تابع مواقعنا