الجرن

لم ينقطع السمر واللعب يوما، سواء كان الظلام حالكا، أو القمر بدرا.

يجتمع الأقران بعد صلاة العشاء، وبعد يوم مشحون في الأعمال الزراعية، والمدرسية، ينتهي البعض من وجباته المدرسية بعد صلاة المغرب، والبعض الآخر في أثناء وجوده في الحقل، لتبدأ فتره الترفيه اليومية، ويكون الاجتماع في الجرن.

الجرن عبارة عن مكان فسيح، خالٍ من أي عوائق، ويستخدمه الفلاحون في تجميع المحاصيل، كلا حسب دوره، لكن في فترة ما قبل الحصاد يكون هو مرتعنا، ونادينا الرياضي، تقام فيه الألعاب الأولمبية القروية، ألعاب توارثتها الأجيال، وأضيف إليها بعض الحبكات من الأفلام الهندية، التي كنا نشاهدها في نادي الفيديو، كنا ندفع 10 قروش لنشاهدها مع أفلام بروسلي.

كان لكل حارة في القرية مكان مخصص لأبنائها -جرن- لا يصح أن يأتي زائر من حارة على حارة أخرى، كان يعتبر ضيفا غريبا وغير مرحب به، بل تقوم بالتهكم عليه، والتنمر على حارته، وكان يؤدي ذلك إلى إشعال الحرب بين الحارتين، ونجتمع لنضع خطة الهجوم على تلك الحارة، وكيف يتم مفاجئتها خلال اندماجهم في اللعب داخل الجرن الخاص بهم، لنضرب ضربتنا ثم نعدو بسرعة، على أن نتفرق في الشوارع المختلفة، كي لا يقع أسرى منا في أيديهم، ونلتقي في مكان تجمعنا لنستعد لهجومهم المباغت.

وكثيرا ما يتطور الأمر وتنتهي تلك المعركة بإصابات بين الطرفين، ويتدخل الأهل، ويكون مصير المشكو في حقه علقة ساخنة ومنع من اللعب والخروج إلى الجرن، وتستمر تلك المناوشات إلى أن يعقد الصلح بين الأطراف خلال اليوم الدراسي، حيث تجمعنا جميعا مدرسة واحدة.

كانت اللعبة المفضلة لدينا بعد كرة القدم هي الدائرة، وهي عبارة عن مكان مربع له حدود يتم تحديدها بالتراب، وينقسم المتصارعون إلى فريقين متساويين، وينزل الفريق بالكامل إلى الدائرة، ويواجه لاعبا من الفريق المنافس بالتوالي، وعلى هذا اللاعب أن يمر من بينهم ليلمس أحدهم بيديه، أو برجليه، أو يطيح به دون أن يمسكه الفريق داخل تلك الدائرة، ومن يلمس يخرج خارجها، ومن يمسك به داخلها يخرج وينزل غيره.

وتتحول اللعبة مع الحماس الزائد إلى لعبة عنيفة، يتم تقليد حركات أميتاب تشان، وبروسلي، بين القفز والطيران في الهواء، وحركات بهلوانية مختلفة يمارسها اللاعبون جميعا، ويكون التحدي بينهما هو عدم الخسارة، لكن في نهايتها سيكون هناك فريق خاسر لا محالة، لتنقلب الأدوار بين الفريقين، ويجن الليل سريعا، ولا ندرك الوقت، حتى نسمع اسم أحد منا ينادي عليه، فقد حان وقت النوم، ويستمر النداء علينا الواحد تلو الآخر حتى يكتب لليلة نهايتها.

كان الوضع في شهر رمضان مختلف، ففي ليلة الرؤية ننتظر بجوار المسجد حتي يعلن الشيخ موعد رمضان، فإن كان في نفس ليلة الإعلان نخرج ونحمل العلب الصفيح والبلاستيك لنضرب عليها وكأنها طبول، ونجوب كل شوارع القرية وننادي: رمضان بكرة، ونستمر في التجوال لحين خروج المسحراتي، ونطوف معه أول ليلة نفس الشوارع، وتنتهي لفة الدوران كل واحد فينا عند بيته، ليخبر أسرته أن المسحراتي قد مر وحان وقت السحور.

كان الجرن أو تلك الساحة تمتلأ بكل الأعمار، فبعد الانتهاء من صلاة العشاء ستجد جمعا غفيرا من الأعمار السنية المختلفة، وتختلف ألعاب كل فئة عن غيرها، فمن يلعب عسكر وحرامية، ولعبة البراشوط، والدايرة، وكرة القدم، وصلح، ومسابقة دون كلام، وتقليد الممثلين، وصنع عربات من الطين، وسوف نشرح كل لعبة بالتفصيل في وقت لاحق.

إنما يجب أن نعرف أن الجرن كان النادي الاجتماعي لأطفال القري ليلا، ولتجمع شبابها نهارا بعد صلاة العصر للعب كرة القدم، وغالبية المقابلات واللقاءات بينهما كان هو محورها وأرضيتها.