السبت 06 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

حين تصبح الكاميرا سلاحًا.. أنس الشريف يروي معاناة غزة ثم يترجل شهيدًا| شهادة

الصحفي أنس الشريف
سياسة
الصحفي أنس الشريف
الإثنين 11/أغسطس/2025 - 07:18 م

قلت الحقيقة فقتلوا والدي.. هكذا كان عنون الصحفي الشهيد أنس الشريف، الذي استشهد مساء أمس الأحد إثر استهداف قوات الاحتلال الإسرائيلي لخيمة طاقم الجزيرة أمام مجمع الشفاء الطبي؛ شهادته التي نشرها في كتاب لمعهد الجزيرة للإعلان نشر عقب مرور عام من الحرب الإسرائيلية الغاشمة على قطاع غزة، وتحديدًا قبيل نهاية العام الماضي 2024، روى فيها كواليس بداية عمله كمراسل صحفي حظيت تغطياته باهتمام عالمي وعربي كونه مثل الصوت البازغ من شمال القطاع في وقت استهدفت آلة الحرب الإسرائيلية أي صوت يرصد جرائمها في أجساد مواطني غزة.

بداية أسطورة أنس الشريف

يوضح الشريف في شهادته أن قصته بدأت من شمال غزة منذ اللحظة الأولى لاندلاع حرب الإبادة الجماعية على غزة لتغطية الأحداث الميدانية، بما في ذلك القصف المستمر والمجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، وأن مهمته لم تكن سهلة، كونه عمل مصورا صحفيا لسنوات عديدة ولا يملك خبرة سابقة في مجال المراسلة التلفزيونية، وأنه اتخذ القرار بالمضي قدما في هذا الطريق لنقل معاناة الشعب الفلسطيني في شمال القطاع إلى العالم.

الصحفي أنس الشريف
الصحفي أنس الشريف

وتابع أنس الشريف، أنه خلال عام واحد نزح أكثر من 20 مرة، وأن كل من يزاول مهنة الإعلام في قطاع غزة يوجد في دائرة الخطر من دون ضمانات حماية جادة: “وربما وأنا أكتب هذه الكلمات قد أكون مستهدفا أنا وزملائي في أي لحظة على نحو متعمد رغم أننا نرتدي ما يثبت أننا صحفيون”.

وعن صديقه الشهيد الصحفي إسماعيل الغول، روى الشهيد أنس الشريف، أن الغول هو من أصر على البقاء في شمال القطاع لتغطية الأحداث، وكان هدفا "مشروعا" في أدبيات الاحتلال حين استهدف بصاروخ إسرائيلي متعمد، مردفًا أن استشهاد الغول مثل صدمة هائلة له، إذ لم يشعر بقسوة الحرب كما شعر بها بعد فقدانه.

في غزة المأساة لم تستثن أحدا ولم يكن هناك فارقا بيننا نحن الصحفيون وبقية الناس، عشنا الخطر بكل تفاصيله النزوح والحصار والجوع الذي نال من أجسادنا، كنا جزءًا من الشعب، نعيش المعاناة نفسها ونواجه التهديدات ذاتها.

يتابع الشريف في روايته، أن الاحتلال لم يفرق بين أحد الجميع كانوا أهدافا، رجالا ونساء، أطفالا وصحفيين، وأنهم (أي الصحفيين) شعروا بمسؤولية كبرى تجاه نقل الحقيقة.

السير على جثامين الشهداء لإيصال صوتهم 

كما أردف: لا يوجد في غزة مكان آمن الجميع يعيش تحت تهديد الموت في كل لحظة، فعائلات كاملة تُمحى من السجلات، وأخرى لا تزال مدفونة تحت الأنقاض، والمصابون يفارقون الحياة في المستشفيات بسبب نقص الرعاية، رأينا المجازر ترتكب يوميا بحق الأطفال والنساء والعائلات، وشاهدنا الجرحى تُبتر أطرافهم من دون تخدير والأطفال يدفنون تحت الأنقاض وهم يستغيثون، سمعنا أصوات الأطفال ينادون آباءهم لإنقاذهم من بين النيران، ولكن لا أحد كان قادرا على ذلك.

الصحفي أنس الشريف
الصحفي أنس الشريف

وعن أشد المجازر التي تابعها أوضح أنس الشريف، في روايته، أن مجزرة مدرسة التابعين هي الأشد إيلاما في ذاكرته، وأنه في إحدى ليالي الحرب الدامية تلقى اتصالا يبلغه بالقصف ووقوع مجزرة جديدة، ليخرج مهرولا بملابس البيت، غير آبه بما ينتظره في الخارج، لترقب عيناه الجثث متناثرة على الطريق ويجد نفسه وسط أشلاء وجثث مبعثرة في كل مكان، حيث لم يكن هناك موضع قدم خال من جثث الضحايا في ظلام حالك.

ولإيصال الصوت وإبلاغ العالم بما جرى، وجد الشريف نفسه في مدرسة التابعين أمام خيارين كلاهما مر، وهما المحافظة على حرمة الجثث والأشلاء المتناثرة، والسير بينها لتوثيق هذه الجريمة؟، ليكون خياره (الصعب على كل آدمي) هو السير فوقها لتسجيل هذا المشهد المروع أشلاء الأطفال والنساء وكبار السن والشبان مختلطة ومرصوصة على الأرض؛ لأنهم كانوا مصطفين جنبا إلى جنب لأداء صلاة الفجر.

رأينا الموت البطيئ بأعيننا 

كما مثّل الموت البطيئ للمصابين والمنكوبين جزءًا من رواية الشريف عن روعات الحرب في شمال القطاع، مضيفًا أنه من بين المشاهد الأخرى التي لا تزال عالقة في ذاكرته، تلك اللحظات التي كان يسمع فيها استغاثات الناجين العالقين تحت الأنقاض بينما الدفاع المدني يقف عاجزا عن إنقاذهم بسبب نقص الإمكانات، ليموتوا ببطء تحت الركام من دون قدرة على مساعدتهم، هو مشهد يصعب وصفه ولا يمكن للكلمات أن تعبر عن قسوته.

نحن الصحفيون نعيش هذه الكارثة مثل الجميع نواجه التهديدات نفسها ونتحمل المخاطر ذاتها، ولكننا نعلم أن صوتنا هو سلاحنا الأقوى، ورغم أن حياتنا قد تكون الثمن فلن نتوقف عن توثيق الحقيقة، يضيف أنس الشريف أيضًا في روايته التي نشرها كتاب معهد الجزيرة للإعلام، أنه منذ بداية الحرب وبداية تغطيته الصحفية التي تميزت بكلمته الشهيرة “التغطية مستمرة” تلقى عدة رسائل تهديد من ضباط الاحتلال الإسرائيلي كانوا يحاولون الضغط عليه لوقف عمله مع الجزيرة، ويطالبونه بالتوقف عن التغطية والنزوح إلى جنوب القطاع، إلا أنه لم يستجب لأي من تلك التهديدات.

كنت مدركا تماما أن الاحتلال سينتقم مني 

وعن استشهاد والده يروي أنس الشريف، أنه عقب توثيقه لاقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي مخيم جباليا واعتقال بعض سكانه وإجبار الآخرين على الخروج تحت وابل من الرصاص، استهدفت طائرة إسرائيلية منزل عائلته مباشرة، ما أسفر عن استشهاد والده، قائلا: “ الاحتلال لم يعرف أن استشهاد والدي لم يكسرني؛ بل زادني إصرارا على المضي قدما في الطريق الذي اخترته كانت تلك وصيته لي أن أواصل أداء واجبي، وأن أكون صوتا ينقل الحقيقة مهما كانت الظروف”.

الصحفي أنس الشريف وأطفال غزة
الصحفي أنس الشريف وأطفال غزة

واستطرد: “لا أخفي عنكم أنني شعرت بصدمة عميقة رغم أني كنت مدركا تماما أن الاحتلال سينتقم مني ومن تغطية الجزيرة، وأعرف أيضا أنهم مجبولون على الغدر، وكان وقع نبأ استشهاد والدي نتيجة قصف متعمد، أشد مرارة وألما.. ورغم ألم الفقد، وقفت أمام الكاميرا بعد دقائق من استشهاد والدي لأغطي نبأ استشهاده ومراسم دفنه".

كنا نخرج أمام الكاميرا ونحن جائعون ومنهكون

وعن حياته في ظل ما يشهده القطاع من تجويع ممنهج تحت مظلة حرب إبادة عرقية من قبل إسرائيل تجاه الفلسطينيين يقول أنس الشريف في شهادته: “كنا أنا وزملائي الصحفيين نسعى جاهدين للبحث عن أي شيء يسد جوعنا ولكن لم نتمكن حتى من الحصول على كيلوجرام واحد من الطحين. 

أحيانا كنا نحصل على بعض المكسرات أو الحلوى ولكنها كانت تنفد سريعا.. حتى أصبحت أبسط الأشياء نادرة لأربعة أيام متواصلة، لم نستطع الحصول على وجبة طعام واحدة، وغالبا ما كنا نخرج أمام الكاميرا ونحن جائعون ومنهكون”.

واستكمل أنس الشريف روايته التي نشرت في كتاب نشره معهد الجزيرة للإعلام بعنوان “وحدنا غطينا الحرب” أنه كان يدرك أنه كغيره من الصحفيين لم أستطع وصف كثير من المجازر التي شاهدتها، ولم أستطع التعبير عن شهور المجاعة التي مررنا بها؛ فهذه التجربة تحديدا لا يمكن سردها كقصة، ولا يمكن وصف كيف يعيش الناس وكيف يعاني الزملاء وأبناء غزة تحت وطأة القصف والجوع معا.

كنت أضغط على نفسي لأوصل الرسالة

كما قال: “أعترف أنني وجدت نفسي في كثير من الأحيان في حالة من اللامبالاة أتجول بين الأشلاء وجثامين الأطفال والنساء تعايشت مع هذا الواقع الفجع، وأحيانا مرّت علي مشاهد لا أستطيع تحملها، ولكنني كنت أضغط على نفسي لأوصل الرسالة”.

وأردف: “قد يرى البعض أنه لا ينبغي علينا المخاطرة بحياتنا من أجل الحدث والصورة ولكننا نعلم أنه من دون هذه المخاطرة، لن يعرف العالم ما يحدث هنا، وواجبي قبل أن يكون وطنيا هو ديني وأخلاقي أن أنقل معاناة أبناء غزة وما يحدث لهم. 

رغم أن كثيرا مما وثقناه من مجازر شنيعة قوبل بالصمت، فإن هناك مجازر أخرى وثقت وحظيت بدعم العالم لنصرة ضحاياها ولو بالقليل.. لقد مر عام مرير منذ بداية حرب الإبادة التي لم تتوقف حتى الآن.. وما زلت على الطريق نفسه، أواصل نقل ما يجري بصدق، لأري العالم ما نراه ونعيشه كل يوم.. قد يتساءل البعض لماذا أستمر في التغطية رغم أن شيئا لم يتغير ولم يُوقف هذا الدمار.. جوابي بسيط: ربما يكون هناك مشهد أو حدث أو صورة مما وثقته قادرة على إحداث الأثر المطلوب، لتصبح تلك اللحظة هي الشرارة التي تنهي هذه الحرب يوما”.

الصحفي أنس الشريف
الصحفي أنس الشريف

واستشهد أمس الأحد الصحفي أنس الشريف، رفقة طاقم قناة الجزيرة شمال قطاع غزة جراء قصف إسرائيلي استهدف خيمة البث التابعة لقناة "الجزيرة" في محيط مستشفى الشفاء بمدينة غزة، في جريمة جديدة تطال الطواقم الإعلامية العاملة في القطاع.

وعقب استشهاده تداولت وسائل التواصل الاجتماعي صورة لمحادثة بين الشريف وآخر طالبه بالخروج من غزة هربًا من الحرب إلا أن أنس الشريف رفض قائلا: “لن أخرج من غزة إلا إلى الجنة”، لتتحقق رغبته شهيدًا على ضفاف القضية الفلسطينية.

تابع مواقعنا