الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

هذيان قلب | قصة

السبت 16/أغسطس/2025 - 08:25 م

سأبني من اليأس كوخًا أقبع فيه بعيدًا عن الناس، سأركب أول قطار يرحل مع غروب الشمس إلى مجهول تترامى في جنباته كل أحلامي وآمالي، لن أيأس من تكرار السير، حتى وإن كنت وحيدًا.

                                                            ****

لم أكن أدري أنني أحبها، كنت أظن أنها نظرات عابرة أو مجرد إعجاب شاب بفتاة جذابة أو مُراهَقةٌ لم أشبعها حينما كنت في المرحلة الإعدادية، حيث كانت أظن تجنب الفتيات فضيلة.

ظننت أنني ضيف لا أكثر، وسيتم توديعي بعد بضعة أيام، غير أن القدر ساقني إليها، كنت في أيامي الأولى، أراها جالسة في أقصى الدنيا، وشعرها الفاحم الأسود يعطيها هيبة وجلالا، وبينما هي تجلس على عرشها الوثير، ألوح لها بعينيي من بعيد، وأنتظر أن تصدهما، غير أنها كانت تحملهما بين أصابعها ثم تقبلهما، فتذبحني القبلات ذبحا، وتضمني شفتاها عوضا عن التراب.. أو هكذا كنت أخدع نفسي!!

مرت أيام وشهور، وقلبي يترصد لُقياها، فاليوم الذي لا أراها فيه، تئن روحي ويعذبها الاشتياق.. وأتخيل نفسي أخاطبها قائلا: أيتها الرفيقة البعيدة، حفظت كل تسريحة شعر لكِ، ويا حبذا عندما تتركينه منسدلا، وتزدادين في قلبي اشتهاءً إذا كان مجعدا قليلا، بينما الألوان كلها عليك جميلة، لأنكِ من تمنحينها فضيلة الجمال، فلا تبخلي عليّ برؤيتكِ، فإن عمري لن يكتمل بدونكِ، فهل وصلتها رسالتي أم أنني ما زلت أصدق نفسي التي دأبت على الصدق مع الجميع، إلا معي أنا.

وفي يوم شتوي غائم، هممت بالرحيل، غير أنني لم ألبث أن لمحتها من بعيد تقف مع صديقاتها وتضحك ملء شدقيها، مستعرضة يدها معهن، حيث خاتم ذهبي كبير يلتف حول بنصرها، ولا أعلم لماذا شعرت أنه قبيح جدا.. ساعتها عبرت من أمامها دون أن يلمحني أحد، ذرعت الطريق بلا هدى أقاوم رغبة في الضحك!! نعم الضحك لأنني خنت عهدا بيني وبين نفسي وصدقت الأوهام، وجريانًا على قول عبد الوهاب «أن من ضيعتُ الأوهام عمرا».

توقفت في منتصف الطريق، ونظرت إلى السماء وقلت: أعلم أنكَ تحبني فلماذا تعذبني، هل ما حمله بين ضلوعي قلب أم عقاب أبدي لا يغادرني، منذ متى كانت المشاعر النبيلة لعنة، منذ متى صارت سببا لشقاء صاحبها، لماذا يظل ملاذي الوحيد هو الخيال والوهم، بينما الواقع الذي أرجوه لا أنتمي إليه ولا يريد أن يأتي إليّ؟!

- مالك يا ابني!!

أوقفني ضابط المرور، وهو ينظر إليّ بفزع واضعا راحته على كتفي.

- أنت واقف بقالك شوية في نص الطريق، فيك حاجة، قول لي أساعدك إزاي؟

كدت أهمهم ببعض الكلمات إلا أنه لم يدعني أكمل، ثم أخذني إلى حيث النقطة المخصصة لشرطة المرور، ثم أعطاني كوب ماء.

- مالك أنت تعبان، أوعى يكون عندك القلب!!
- أأأ أنا.. أه؟ عندي مشكلة في القلب
- عندك إيه يا ابني؟
- ولا حاجة شوية تعب بس، الضغط ملغبط تنظيم ضربات القلب.

نظر إليّ بإشفاق مصدقا إياي، وفي الحقيقة لم أكن أكذب، فقلبي الآن صار عليلا، يشكو الغياب والفقدان، يهذي من وطأة الاشتياق.

بعدها قمت شاكرا إياه، ثم قال لي:

- ميهمكش حاجة، واللهِ أنت تستاهل الخير كله، بص للسماء وكلم ربنا، هتلقيه بيطبط عليك.

- الله يعز حضرتك، ألف شكر.

ثم مشيت في طريق مقفر يمتدّ فيه البصر إلى أبعد الحدود، والشوارع خالية كقلبي، وشمس الأصيل تعاتبني، والمباني الشاهقة تواسيني، وفجأة تذكرت أمرا لم أدركه إلا الآن، ولا أعلم كيف نسيته حقا.. أنني ما زلت حيا.

تابع مواقعنا