دماء ما بعد الفراق | قصة
بحلم أنا بلُقاه.. قلبي نسيته معاه.. امتى الساعات تجري.. مش قادر استناه
- جورج وسوف
استيقظ من نومه على أصوات زملائه في السجل تتعالى مع المتقدمين لإنهاء مصالحهم وأوراقهم، بدأ يلتفت يمينًا ويسارًا ثم نظر إلى ساعته فوجد أن ورديته انتهت من نصف ساعة، لكن يبدو أن الوسن تسرب إلى عينيه فغفى قليلا.
خلع عن الكرسي جاكيت البدلة وخرج من مبنى السجل المدني المطل على النيل، وعلى الرغم من جمال المنظر الخلاب للمياه ورائحة الهواء النقية، فإنه مع ذلك وعلى مدار سنوات يسب ويلعن القادمين والراحلين في كل خطوة يخطوها عند خروجه من العمل وحتى عودته إلى المنزل.
منذ عشر سنوات تخرج في الجامعة، تعثر قليلًا حتى وجد هذه الوظيفة الحكومية التي وإن كان مرتبها هزيلًا ولكن أقرانه يحسدونه عليها لأنه موظف حكومي وله معاش وعلاوات وحوافز، رغم أنهم يتقاضون أضعاف أضعاف ما يتلقاه هو آخر الشهر.
يعيش وحيدًا في منزل صغير تركه له جده الراحل بعد وفاة والديه وزواج إخوته الصغار، يجلس على مقعد وثير، يعد كوب شاي بحليب، ثم يفتح التلفاز على القناة الأولى لمشاهدة النشرة، بعد قليل يطفئ التلفاز ويسحب الجريدة الموضوعة بجانبه، ويتفحصها بعينيه، يدهشه كثيرا مقالات الرأي، فمنها ما يعبر عن ذات صاحبها مدججة بكل الحجج والأسباب التي يحاول كاتبها أن يثبت بها رأيًا أو يقدم بها دليلا، ومنها ما هو لقضاء الحاجة، أي حبر يلطخ ورق الجريدة لا أكثر. ينهي جريدته ثم يأخذ قيلولة وبعد ساعتين يستيقظ ليجدها السابعة مساءً.. آه لقد تأخرت.
ارتدى بدلة سوداء، أعاد شعره إلى الوراء وضع عطرًا نافذًا، ثم توجه إلى ميعاده شبه الغرامي الذي يحيطوه العتاب من كل تجاه.
سار في ذلك الشارع الطويل المترامي، على جانبيه يزدحم بالمحلات والمطاعم والمقاهي وغيرها، حتى وصل إلى وجهته، ها هو عنوان المطعم الذي اتفقا عليه، يدخل المطعم حتى تقع عيناه عليها، واضعة راحة يدها على خدها، وشعرها الأسود اللامع ينساب على كتفيها، وعيناها تنظر إلى الطاولة محدقة في الفراغ اللا متناهي، اقترب أكثر منها، انتبهت لصوت أقدامه، ثم تلاقت العيون، وبدأت مشاعر متضاربة تتسرب إليهما على مهل دون أن يفهما معناها.
رحبت به ثم رد عليها، جلس سريعا ثم سألها عن الطعام الذي تود أن يطلبه لكلاهما، أجابته بقتضاب أن كل الخيارات متاحة، وضعت المنيو جانبًا، ثم بدأ الحديث:
ـ أعلم جيدًا أنها النهاية ولكنني وددت أن أجعلها أجمل النهايات.
ردت عليه وشبح ابتسامة يلوح على وجهها:
ـ أحيي شجاعتك وصدقك في الحديث، ولكن عندي سؤال لك، طالما أنك تعرف أن علاقتنا لن تستمر طويلا، لماذا كنت عازما على الاستمرار كل هذا الوقت؟!
ـ كنت أعتقد أن هناك أملًا أو ربما سببا آخر للتفاؤل، إلا أن كل الأسباب غابت ورحلت.
ـ فقررت الاستسلام!!
ـ لا؟! لم أستسلم، ولكن لم أرد أن أكون عائقًا أمام مستقبلكِ، لا ذنب لكِ أن تقضي بقية عمركِ مع فاشل مثلي، لن أكون مصدر سعادة لكي، لن أجعلكِ أسعد الناس كما وعدتكِ.
توقف قليلا عن الحديث لكي يغالب دمعا يغلي في مقلتيه:
ـ وأعلم أن جاركم الذي يعمل في الطيران تقدم لكِ منذ شهر، ورفضته إلا أن والدكِ بحنكته قال له ستغير رأيها سريعًا، وقد كان صائبا فيما قال.
عادت بظهرها إلى الوراء متفاجئة مما قال:
ـ لا أعرف ماذا أقول صراحة، لقد أضعت من عمري عامين في الوهم، حتى لم تتقدم لخطبتي، ثم تأتي لتخبرني بهذه الترهات؟!
ـ لماذا تحتدين عليّ، أنا أسف أنه نصيب.
ـ لا ليس نصيبا لقد كنت تلعب بي، تتسلى قليلًا، وأنا حقا أحببتك لكن أنت لم تكن تحبني.
ـ وأنا لم أتخذ هذا القرار إلا لأنني أحببتك.
ـ كاذب!!. قالتها وعيناها ممتلئة بالحمرة، أنت لا تحب إلا نفسك، وتكره أن تضع على عاتقك أي مسؤولية.
أخذت حقيبتها ثم خرجت من المطعم، وهو شاخص العينين كأنه شُل عن الحركة تمامًا، وبقت هي تضرب الأرض بقدميها ضربا، وتمطرها بدموعها الهادرة، وطيف شبح منه يسرح في خيالها.
بقى جالسا في المطعم، وضع النادل الطعام على الطاولة، أشر له أن يقترب منه، فهمس في أذنه:
- خذ الوجبتين لك ولزملائك، ولا تسأل عن شيء.
أومأ برأسه إيجابا في صمت، ثم قام من مقعده، وسار في الشارع بلا هدى، لا يعرف حقيقةً إلى أين يريد الذهاب، إنه فقط يريد أن يرحل.
استيقظ في الصباح الباكر حوالي الساعة السابعة صباحا، لم يكن يشعر بأي شيء، كان لا بد له أن ينهي هذا العبث كله، قال في نفسه: حقا أنا مريض نفسي أحببت فتاة رغم أنني لا أريد تحمل أي مسؤولية في حياتي إلا نفسي، كنت أعتقد أنني سأتقبل فكرة أن أكون يومًا زوجا أو أبا، ولكن الطبع يغلب التطبع، وأنا لم أنجح ألا في تحطيم قلب فتاة طيبة في الـ 27 من عمرها ما زالت الحياة أمامها، لا أعلم لماذا أحس دوما أنني أكبرها بعشرات السنين رغم أنني في الـ32 فقط.
أنهى حديث النفس هذا، كأنه يروي قصة لأول مرة يسمعها، سار إلى الحمام ببطء شديد كأنه يملك قدمين من حجر، استل شفرات الحلاقة، وضعها تحت الماء، ثم أخذ يرغي معجون الحلاقة مستخدما فرشاة خشنة، حتى حصل على الرغوة المثالية، ثم وزع المعجون على ذقنه، ثم أخذ الشفرة من على الحوض، وبدأ في تحريكها على وجهه، بدءا من خده الأيسر مرورا بأسفل ذقنه، عروجا على ذقنه نفسها وأسفل شفتيه.
حتى وصل إلى خده الأيمن، فأحس بوقع أنامل صغيرة ذات أظفار مدببة قليلا تضرب على كتفه، ثم هبت أنفاس ساخنة اشتم شيئا منها، فنظر إلى المرآة فرأها تحيطه بذراعيها واضعة رأسها عند رقبته، فزِع لثانية فحرك شفراته، ما أدى إلى إحداث جرح صغير أسفل خده الأيمن، التفت يمينا ويسارا فلم يجدها.
عدل وجهه ناحية المرآة، فوجد الدماء قد تدفقت على وجهه، أسعف نفسه بقطعة قطنية رش عليها الكولونيا، ثم طهّر بها موضع الجرح.
عاد إلى الأريكة وقد ارتدى بيجامة منزلية كلاسيكية، ارتمى عليها كأنه عاد لتوه من مسير شاق طويل، تنهد بصوت مسموع، وتحسس الضمادة التي وضعها على وجه، وأحس ساعتها أنه يمس وجها آخر غير وجه، كأن موس الحلاقة اجتز وجه بالكامل وليس بضع شعيرات نمت على صفحة وجهه في مدة قصيرة.
غطّ في نوم عميق، ثم بدأت تظهر أمامه عدة مشاهد: أول مرة قابلها فيها وكيف استقبلته بابتسامتها الجذابة، أول مرة مست يده أناملها وبدأت حرارة الحب تشتعل بينهما، ويوم ميلادها حينما قدم لها خاتما ذهبيا فتعلقت برقبته وأخذت تقبل خديه، وأنفاسها الحارة تشعل في قلبه نيران العشق والرغبة.
ثم تراءى له يوم أخذها إلى إحدى البواخر النيلية ورقصا على إيقاع إحدى الأغاني الكلاسيكية، وفي ساعة الغفلة والاستسلام، لثم فمها بقبلة حارة، أصابتها برعشة اهتزت على إثرها حصون جسدها، فدفعته بيدها قليلا، فتلعثم معتذرا والرعب يجتاح كيانه، إلا أنها ما لبثت أن أمسكت بكتفيه ثم انهالت عليه بوابل من القبلات الحارة، فضم جسدها بقوة إلى جسده، فتأوهت شبقا وأخذت تتلوى تحت وطأة الحب الذي غمر الروح وفجر براكين العشق الخامدة.
انتفض مستيقظا، والعرق يقطر من جبينه كأنه شلال هادر، تجرع من البراد الماء المثلج، وذرع المنزل ذهابا وإيابا، وهو يضرب بقدميه الأرض بقوة، ثم ذهب إلى الحمام وفتح صنبور الماء وأخذ يضرب الماء بوجه، مع ذلك ظل يرى هلاوس سمعية وبصرية، صورتها تتجسد أمامه يحس بها بصوتها بملمسها، تلف ذراعيها حوله وتنظر إليه بعتاب، وكلما ابتعد عنها تمثلت قبالته من العدم، استمر على هذا الحال، حتى كسر مرآة الحائط بيده فجرحها، وأخذت الدماء تنزف منها دون أن يدري، ثم خارت قواه وسقط على الأرض وهو يبكي بحرقة، مصدرا نحيبا يمزق القلوب من فرط قسوته.
استند إلى الطاولة حتى يقوم، جفف دموعه وبدأ في استعادة رباطة جأشه، هدأ قليلا د، ثم أدرك بعد كل هذا أنه يحبها، ولا يقدر على الحياة بدونها يوما واحدا، إنه يراها في صحوه ومنامه، إنها أكبر من كونها امرأة، إنها كل شيء.
ضمد جرح يده ولم يتبقَ له إلا أن يضمد جراح قلبه، نظر إلى الساعة فوجدها الـ 12 صباحا.
مبنى شاهق في وسط المدينة التي تعج بالبشر والمؤسسات الرسمية ومقار الشركات الكبرى، يقف وحيدا كأنه متفرد في بنائه، بل وفي نوعية البشر الذين يعملون فيه. هبطت درجات السلم بهدوء كانت ترتدي تنورة سوداء قصيرة إلى ما تحت الركبة، وبلوزة كستنائية، وقد عقدت شعرها إلى الوراء، يتزين جيدها بعقد فضي براق نسيت أن تخلعه عنها، ورغم حسنها، فإن الإعياء قد بدا عليها واضحا جليا، وأكثر من زميل لها في العمل علق على هذا، غير أنها كانت ترد بأنها تعاني إرهاقا لا أكثر.
وبينما هي تهم بالخروج، شهدته واقفا أمام بوابة المبنى، تملأه الجراح وعيناه مخضبتان بالحمرة، وصفرة بسيطة اعتلت وجهه. تسمرت في مكانها لا تعرف ماذا تفعل أو ماذا تقول، حتى تقدم نحوها بتؤدة إلى أن صار في مواجهتها:
- أنا أسف.
لم ترد متحاشية النظر إليه، حتى قال بصوت أعلى قليلا يملؤه الندم:
- أرجوكِ سامحيني، كنت مخطئا، آثرت نفسي عليكِ ولم أكن أدري أنني بهذا كنت أخسركِ، أنت الشيء الوحيد الحقيقي في حياتي، حتى أنا كنت قبلكِ مزيفا.
لم ترد أيضا، ظلت صامتة غير قادرة على الحديث، نظر إليها مصوبا عينيه نحوها، ودموعه تتساقط حتى بللة ثيابها، حتى قالت بصوت يملؤه الوهن:
- هان عليك أن تتركني هكذا.. لقد أحسست أن ظهري انحنى، وقلبي الذي وهبته لك دون شروط، صار خرقة بالية، هل ظننت أن الأمر سيمر عليّ مرور الكرام؟!
- أنا أأأأأ لم أقصد.. كنت...
- اخرس!! لقد حطمتني، جعلتني أبكي دماءً عوضا عن الدموع، لقد وثقت بك ثم خنتني، هل تعتقد أنني بلا كرامة، إن ألف رجل أفضل منك يتمناني، إلا أنني اخترتك وكنت أسوأ اختيار.
أمسك بيديها وأخذ يقبلهما وكلاهما يبكي، ثم قال: لقد أخطأت في حقك، أتفق معكِ أنكِ تستحقين الأفضل، وأنني لم أقدرك حق قدرك، لكنني اكتشفت خطأي، وعرفت أن حياتي دونكِ ستكون جحيما، أرجوكِ سامحيني لا تتركيني معذبا مدى الحياة.
- ابتعد عني لا أريد أن أراك مجددا، لقد قتلتني مرة والآن تقتلني ألف مرة، الموت أهون عندي من العودة إليك.
-عزيزتي.
صرخت في وجهه بقوة: اخرس، لست عزيزتك لم أعد أحبك. ثم تركته وهي تعدو بعيدا، بينما هو عاجز عن الحراك، كأنه شُل عن الحركة أو صار تمثالا.
عادت إلى منزلها كان والديها عند عمتها للطمئنان على صحتها بعد إجرائها عملية الزائدة الدودية، أمضت اليوم في التفكير فيما دار بينهما، لقد حدثته بقسوة، ورغم هذا الرفض العظيم من قِبلها، فإنها جزعت جزعا شديدا لكل كلمة وجهتها إليه، وقالت في نفسها: كيف كنت قاسية معه هكذا، لماذا حقا؟! لقد آتى لي نادما، مع ذلك صددته بكل وقاحة، وكأن الأعوام التي بيننا صارت ثوانٍ معدوداتٍ لا قيمة لها.
أخذت هاتفها ورنت على رقمه، إلا أنه لم يرد، وأخذت تفعل ذلك عشرات المرات ولم تتلقَ إلا الرفض، وجنّ الليل عليها وغزى النوم عينها، ولم يعد والديها بعد من عند عمتها، فخمدت إلى النوم بعد أن أنهكها التفكير.
استيقظت متأخرا عن عملها حوالي الساعة الـ 10 صباحًا وقالت إنها ستبلغهم لاحقا بأنها كنت مريضة ولم تقدر على الذهب إلى مقر الشركة، سمعت طرقا على باب غرفتها، ففتحت فإذ بها أختها الصغيرة تقول لها: لدينا ضيوف ارتدي شيئا مناسبا.
تفاجأت فظنت أنه صديق والدها الأستاذ الجامعي المتقاعد الذي كلما قابلته حدثها عن الأدب وفنون المسرح وأغاني أم كلثوم وفيروز، ارتدت عباءتها المنزلية البنية، التي تمتد أكمامها حتى منطقة الكوع، وعند دخولها صالة الجلوس؛ تسمرت في مكانها مصدومة مما رأت.. إنه هو.
- بنيتي، لماذا لم تخبريني عن زميلك منذ وقت طويل، إنه مهذب جدا، ومستعد تماما بلا قيد أو شرط للتقدم للزواج.
برغم ما في صدرها من غُصة اتجاهه، فإنها أحست بغبطة لما سمعت والدها يمتدحه، وهو الذي لا يرى في الناس إلا العيوب فقط.
قالت موجهة الحديث إليه: الحقيقة، أنني لم أره منذ أعوام، متفاجأة حقا برؤيتك.
سرت في بدنه قشعريرة مما قالت، لم يتوقع أن يكون هذا ردها: إحدى زميلتي في العمل، رشحت كريمتكم لي، ولما سمعت اسمها، تذكرتها على الفور، إذ كنت أعمل بالقرب من مقر شركتها، قبل أن أكتفي بوظيفتي في السجل.
بعد ذلك توالى الحديث بنيه وبين والدها وكانت هي حاضرة ضمن هذا الحديث الودي، ثم قامت من فورها وأعدت لهما شايا، وأثناء تقديمها الكوب له، تلاقت أعينهما، كأن ألف حديث وحديث، دار خلال هذه الثواني المعدودات.
بعد أن انتهى الطعام، طرق أحدهم الباب بقوة، ففتحت الأم فإذ بها جارتهم الثرثارة تستغيث بوالدها أن يطفئ المقلاة لأنها اشتعلت، فما كان منه إلا أن هرع إلى الداخل هو وزوجته، كعادتهما كلما ارتكبت جارتهم حماقة، إذ كانت امرأة ريفية لا تعرف استخدام البوتاجاز المسطح بشكل جيد لأن أزراره كان باللمس، حتى أنه تندر عليها مرة بقوله إن ولدها الذي يعمل في هولندا لو أحضر لها كيلو بطاطس لكان خيرا لها من هذا البوتجاز الحديث.
خلال هذه الدقائق، همّ بالقيام معهما إلا أنها استوقفته قائلة: لا تقلق أبي وأمي معتدان على حماقات هذه السيدة المسكينة. ثم توجهت إلى المطبخ وفتحت صنبور المياه، وكأنها تجلي الصحون.
كانت أختها الصغيرة ذات الـ 12 عاما جالسة تنصت للحديث، قال لها إنه ذاهب لغسل يديه، وتركها تشاهد التلفاز ثم توجه إليها داخل المطبخ.
الآن صارا في مواجهة بعضهما البعض، هي تنظر إليه بوجه جامد خالٍ من المشاعر بل قل من الدماء ذاتها، لكن لم تمرَ ثوانٍ حتى فاضت عيناها بالدموع، وأخذت تبكي بحرقة شديدة، ثم ضمها إلى صدره ولم يتحمل هو أيضا فشاركها البكاء، كانت تضغط بأناملها على كتفه، وهو يوسد شعرها بيده معتذرا لها عما بدر منه.
- معذرة إن قسوت عليكَ، لم أكن أقصد، أنتَ تعني لي الكثير.
جفف دموعه قائلًا: أستحق كل ما بدر منكِ وأكثر، لقد كدت أفقد ليس فقد أجمل شيء في حياتي، بل حياتي كلها، لقد ظلمت نفسي وقبلها ظلمتك أنتِ.
- لا تقل هذا، أنت...
- بلى يا عزيزتي، كنت ظالما، لكن الآن لن أضيع الفرصة من بين يدي، كل ما تريدنه رهن إشارتك، حتى وإن اشترط والدكِ أمورا تعجيزية، فهذا لن يثنيني عن إسعادك أبدًا.
فجرت كلماته كل أسباب السعادة في قلبها، فلثمت شفتاه بقبلة كبيرة ذاب كلاهما فيها غراما من فرط الاشتياق، ثم حملها بين ذراعيه ودار بها وهما يضحكان، وبراءة الأطفال في عينيهما.
بعد أن أنزلها، لمحتهما أختها الصغيرة، فأصابهما شيء من التوتر، إلا أنها ضحكت بخبث قائلة: لن أطلب الكثير، مكواة شعركِ الجديدة، و200 جنيه. ضحك ثلاثتهم، وقال لها: وهذه مئة مني، فبادرته بقولها: ولي واحدة أخرى عند نجاحي في الصف السادس. أومأ برأسه موافقا، ثم خرجوا من المطبخ ولم يكن والديها قد عادا، إذ أغمي على جارتها حينما رأت فأرا في الحمام، بعد أن أطفأ والدها الحريق الصغير، لكنه القدر الذي أتاح لهما القاء.
دخل والدها فوجده جالسا على الأريكة واحده، وهي في الجهة المقابلة، أعتذر له عن هذا الموقف المحرج إلا أن ابتسم وقال إن شيئا لم يحدث، بينما في نفسه كان يشكره على تأخره.
جلسوا جميعا، وتم الاتفاق على الخطبة ثم الزواج، لم تمضِ خمسة أشهر بينهما، حتى تزوجا، وقد أنجبا بنتين يضارع حسنهما حسن القمر، وهما الآن في الجامعة.
- ياااااه يا عم عبد الرحمن، هل هي إحدى قصصك، التي ترويها لنا يوميا على المقهى؟
- نعم هي قصة، ولكنها ليست كأي قصة.
- لماذا؟
- لأنها تحوي مشاعر لا يمكن للكتب أن تحتوي، يجب أن تشاهدها على الحقيقة بنفسك.
- وكيف تشاهدها، قل لي.
- بسيطة، أنا الآن ذاهب إلى خطبة إحدى ابنتي الرجل المذكور، كان زميلي أيام الجامعة، وقد مرّ على هذا الحدث، أكثر من عشرين عاما، وذلك حتى أرى الفصل الأخير من هذه القصة، يكتمل أمامي، فأقصه في رواية طويلة، تتناقلها الأجيال ويتحاكى بها الناس من بعدي.


