المدينة الفاضلة
كانت جلسات الصمت لا نهاية لها، أحببتها كما لا أحب شيء سواها، تتصارع فيها الأفكار، وتكثر فيها الحكايات، فيها أصير أميرا، ملكا، مطربا مشهورا، رحالة أطوف العالم، عشت في أمريكا، ورحلت الي البرازيل، تسلقت جبال إيفرست، والهيمالايا، ذهب حيث ذهب عقلي، ورأيت ما هو أبعد من الزمان والمكان.
رأيت أجدادي وهم يبنون مقابرهم الكبيرة (الأهرامات)، كنت أحارب مع أحمس الهكسوس.
سرت في طرق وعرة، ركبت المحيطات وتخطيت الأنهار، عشت في الغابات، والبراري، سكنت القصور.
أطلقت لخيالي العنان، ذهبت الي العوالم والحضارات حيث أراد عقلي، امتطيت الجياد، والجمال، والثيران، حاربت بالسيف والقلم.
كتبت اسمي في التاريخ، كنت مينا موحد القطرين، كنت المتنبي في شعره، وهيكل في قلمه، والعندليب في صوته، اردت منطق كانط، وفلسفة ابن رشد.
كنت عبوسا عندما لا أستطيع وقف الحروب، فشلت في إثناء هتلر عن تهوره، وستالين في غدره، وأردت لسليمان أن يغزو الغرب لا الشرق، كنت الناصح الأمين لعبد الناصر قبل السقوط في النكسة، لكن لم يرني أحد، لم يسمعني أحد، كل ما شاهدته لم يغير في القدر شيء، سقطت الممالك والقياصرة عن عروشهم، وأقيمت الجمهوريات، وحدثت الخيانات، وقتل الملوك والأباطرة، وقامت دول وانتهت دول والتاريخ مازال يكتب، ولم يقرأ أحد.
إنها قصة من أراد أن يغير مشهد حقيقي كانت تبعياته قاسية، فقد قامت الحرب العالمية الأولي والثانية، وتفكك الاتحاد السوفيتي، ويوغسلافيا، وأصبحت مصر جمهورية، وفرنسا جمهورية، وانتصرت البوسنة والهرسك في النهاية، وانتهت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ووقعت أحداث السابع من أكتوبر، وتجرأ نتنياهو بحلم إسرائيل الكبرى.
أردت كتابة قصة رومانسية، بعيدة عن الواقعية، ليس فيها ما يعكر صفو شخصياتها، وكأن الحياة ورود وأغاني وضحك ولهو، ليس فيها مكان للشيطان، ولا للحزن والبكاء، الجميع ملائكة، يعيشن في المدينة الفاضلة، بها حاكم يقيم العدل، وشعب يتصف بكريم الصفات الحميدة.
دولة مبانيها شاهقة، وطرقها ممهدة، ومدارسها وجامعاتها، ومعاهدها، عنوان نهضتها.
دولة بلا أمراض، بلا مرضى، يعيش أهلها في سلام وأمان.
العدل حاكمها، والعدالة ميزانها، والمساواة قانونها، الجميع فيها متساوون، ليس فيها فقراء ولا أغنياء، فالخير فيها حيث أقمت، وحيث نزلت، ليس فيها صراعات، لا نزاعات، ولا أيديولوجيات، وئدوا فيها الشر، وتسلسلت الشياطين، لا طمع ولا جشع بين سكانها، لا سلطة ولا منصب فوق رؤوس قاطنيها، الكل واحد صغيرها وكبيرها.
استيقظت من غفلتي على واقعنا الصعب، حيث هنا الفقير والغني، مجتمع تحكمه المناصب، وسلطته المادة، ويوسوس لهم الشيطان.
مجتمع غابت عنه المثالية، وطغت النفس البشرية فيه بكل ضغائنها، حيث مات الضمير عند بعضهم، وحدثهم شيطانهم بكل فعل خسيس ضد بني وطنهم، من سعي لتقويض الوطن وهتف ضد أراده شعبه، من حرق الكنائس وقتلي المصليين في المساجد، من مارس الإرهاب والتخريب، من تاجر بأقوات الشعب، من دمر مستقبل شبابه بالإتجار في كل الممنوعات، من نشر الأكاذيب والشائعات، من أهمل في عمله وأفسد مصالح الناس، من لا تنتهي لأن ورائها شيطان طليق، وشيطان أسير في ثوب إنسان، يغدر، ويقتل، ويسرق، ويمارس كل فساد.
العيب فينا وليس في أحد، العيب في سلبيتنا، في تخاذلنا، في تكاسلنا، في ضعفنا، وفي هزيمتنا الداخلية، في انكسارنا واستسلامنا، لأننا إن أردنا المدينة الفاضلة فعلينا بمحاسبة أنفسنا أولا، نتحرر من هذا الشيطان، لنضع قيمنا وأخلاقنا ومبادئنا أمامنا دائما لنصنع نهضتنا ونحقق حلمنا وليصير واقعا، إنها أرادتنا وقرارنا.


