حواديت خالد جلال
كنت سعيد الحظ بحضور كل عروض المبدع خالد جلال، وآخر تلك العروض حواديت، أتذكر مرات عديدة لم أستطع الفوز بتذكرة لدخول أحد العروض السابقة، لأن الفوز بتذكرة بأسبقية الحضور، لذا تعلمنا أن نكون قبلها بساعات طويلة أمام المسرح، لنتمكن من الفوز بتذكره، ودخلنا بعض العروض أكثر من مرة مثل سلم نفسك وسينما مصر.
تواجدنا في مركز الإبداع الفني قبل العرض بخمس ساعات كاملة، في تصميم على الفوز بتذكرة لدخول العرض، ونحن متأكدين أننا سنستمتع كعادتنا دائما بما يقدمه خالد جلال وتلاميذه.
فقد تخرج من هذا المكان الضيق فنانون أصبحوا نجومًا كبار، وأضافوا للقوى الناعمة المصرية ثراء من فنانين ومخرجين يقودون الحركة الفنية المصرية ويضيفون إليها.
كانت حواديت خالد جلال ليست كحواديت جدتي، إنما حواديت من واقعنا المصري، كل حكاية هي قصة إنسانية نعيشها، في معظم بيوتنا المصرية بكل فصولها، استطاع أن ينقلنا من حكاية إلى حكاية بسلاسة شديدة، وأن يبكينا ويضحكنا في نفس الوقت، وأن يمتع العرض بأغنيات، وكوميديا شديدة النقاء، وتراجيديا جعلت العيون تعبر فيها عن تأثرها من فرط الإحساس بالحالة الإنسانية، ولاحظت من تجلس بجواري بشهيق بكائها، فقد لامست الحكايات القلوب، وانتفضت العقول لضرورة تغيير تلك المأساة الإنسانية التي تعيشها بعض بيوتنا.
عبر خمسة عشر حكاية حدوته من واقعنا استطاع الممثلين أن ينقلونا من حدوته إلى أخرى، وكل حدوته لها طابعها وتأثيرها، وانفعالاتها الإنسانية.
أعتقد أن كل مشهد كانت له حدوتة من حواديت خالد جلال، أو تعايش مع إحداها، عندما تعرض لحدوته التنمر، أو الشهرة الزائفة “التيك توكر” والتي تواجهها الدولة الآن لمن يستخدمون منصات التواصل الاجتماعي بشكل سيء ويقدمون محتوى ردئ يهدد قيمنا الاجتماعية الراسخة والثابتة.
وتتواصل الحواديت والحكايات إلى أهمية جبر الخاطر والعطف على الفقراء، من عامل البيتزا إلى الأسرة الفقيرة المعدمة، والأم التي أصابها الزهايمر وحالة البر من ولدها.
وننتقل من حدوتة إلى الأخرى، فيتعرض لمشكلة الوحدة وغياب الود والوصل الأسري، والتفكك الأسري وحالة انفصال الأب والأم وترك أولادهم لحالة ضياع وغياب النصيحة، والأم التي تفتح لابنتها مزاد وكأنها سلعة تقدمها لمن يدفع أكثر، ويناقش مشكلة مغالاة في المهر وطلبات الزواج، وضجر الأبناء من اهتمام آبائهم، والعنف الأسري وكأن المرأة جارية تأتمر لأمر سيدها، وغيرها من المشاكل المجتمعية التي تضرب في أوصال مجتمعنا المصري.
حواديت خالد جلال هي واقع استطاع أن يجعل المسرح ينتفض ليقوم بدوره في التنوير، وأن يكون مرآة للمجتمع، يعكس واقع نعيشه ونتعايش معه، ويدق ناقوس الخطر على تلك المشاكل المجتمعية بمهارة شديدة.
فقد كان أداء الممثلين أكثر من رائع، برغم أن المسرح مكتظ بعدد كبير منهم، ورغم ضيق مساحة المسرح، استطاعوا أن يتناغموا في مهارة شديدة، ويعيدوا إلينا المسرح في عصره الذهبي، فكانوا نجوما كبار في أداء أدوارهم، فصدقناهم، وتفاعلنا معهم، وعيوننا كمشاهدين تتبعهم وتنظر إلى عيونهم وحركاتهم، وتعبيراتهم، وانتقالهم من التراجيديا إلى الكوميديا في براعة شديدة، فخطفوا قلوب المشاهدين بأدائهم، وكان التصفيق الحار والمتتالي مع نهاية كل حدوتة خير شاهد على براعتهم.
في يقيني ويقين كل مثقف أن هذا هو دور المسرح الحقيقي، القادر على التأثير والتغيير وتقديم قضايا إنسانية هادفة، وتقديم فن نحترمه ونقدره.
ويؤكد على أهمية دور الممثل الذي ينفعل مع قضايا مجتمعه، والكاتب الذي ينجرف لمعايشة مجتمعه بكل تفاصيله إيجابا أو سلبا، ليضع النقاط فوق الحروف ويسلط الضوء على قضايا في غاية الأهمية وطرق معالجتها.
أتمنى من إدارة ماسبيرو أن يذيعوا هذا الفن الراقي على شاشاتهم، ليرسخوا أن الفن الهادف الراقي يبقى ويعيش مهما طال الزمان.
تحية للمبدع خالد جلال، وكل تلاميذه من الفنانين العباقرة المهرة، وإلى الدولة التي ما زالت تضئ شمعة التنوير وترعاه، وإلى كل مبدع يرفع راية الفن وقدر رسالته.


