من الأرقام إلى الحقائق.. لماذا لا تصنع المؤشرات التاريخية اقتصادًا؟
المتابع بشكل دقيق للخطاب الاقتصادي في مصر خلال الأسبوع الماضي يستشف بوضوح مفارقة صارخة تستوجب الرصد والتحليل، خاصة لما تعكسه من مكاشفة منقوصة لطبيعة الظرف الاقتصادي الذي تمر به الدولة.
ففي مؤتمر رسمي، أعلن رئيس الوزراء أن موارد البلاد الدولارية بلغت 8.5 مليار دولار خلال شهر يوليو، وُصفت بأنها الأعلى في التاريخ، وفي الوقت نفسه، نشر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقريرًا يوضح أن العجز التجاري في يونيو 2025 قفز بنسبة 23.4٪ ليصل إلى 4.4 مليار دولار مقارنة بـ3.56 مليار دولار في يونيو 2024.
الرقمان في حد ذاتهما صحيحان، لكن دلالتهما متناقضة تماما، فالأول رُوِّج له على نطاق واسع كإنجاز استثنائي يحسب للحكومة، بينما الثاني مرّ مرور الكرام رغم أنه يعكس خللًا هيكليًا أعمق.
وهذا التناقض -في تقديري- لا يتعلق فقط بالوضع الاقتصادي ومدى التحسن فيه من عدمه، بل بكيفية صياغة الخطاب العام، وآلية انتقاء ما يُعرض من مؤشرات وما يُترك في الظل.
الموارد الدولارية: إنجاز نسبي لا يصنع تحولًا
لا جدال أن بلوغ 8.5 مليار دولار في شهر واحد، يمثل تطورًا إيجابيًا في الموارد الجارية (الصادرات، السياحة، التحويلات، قناة السويس)، فهو يعكس تحسنًا نسبيًا مقارنة بالعام السابق، حتى رغم النمو المحدود للصادرات السلعية بنسبة 4.7٪ في يونيو، فإنها قد سجلت تحسنًا لا يمكن إنكاره. ناهيك عن الطابع الريعي لتحويلات المصريين في الخارج والتي تنمو بسبب مرونة سعر الصرف وليس بسبب نجاعة الإصلاحات الهيكلية.
لكن وصف هذا الرقم بـ”التاريخي” يحتاج إلى تدقيق، ففي مايو 2024، دخلت البلاد تدفقات أكبر بلغت 14 مليار دولار من صفقة “رأس الحكمة” مع دولة الإمارات، صحيح أن هذه كانت تدفقات استثنائية من بيع أصول وليست موارد جارية، لكن الاقتصار على زاوية ضيقة لتقديم رقم 8.5 مليار بوصفه “الأعلى في التاريخ” يعكس ميلًا إلى التضخيم الإعلامي أكثر من كونه توصيفًا دقيقًا للواقع.
بالفعل، التحسن في الموارد الدولارية نسبي ومهم، لكنه لا يلغي أن الالتزامات الدولارية سواء من فاتورة الاستيراد أو خدمة الدين، لا تزال أكبر من قدرة هذه الموارد على تغطيتها بشكل كامل.
العجز التجاري: خلل هيكلي متجدد
على الجانب الآخر، تكشف بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء CAPMAS أن العجز التجاري في يونيو بلغ 4.4 مليار دولار، وهو ثاني أعلى مستوى خلال ست سنوات بعد يوليو 2018، والسبب المباشر في ذلك يرجع إلى أن الواردات قد قفزت بنسبة 14.4٪، بينما لم ترتفع الصادرات سوى بنسبة 4.7٪.
وهنا ينبغي الإقرار أن زيادة الصادرات تطور إيجابي، لكنه غير كافٍ أمام الطفرة في الواردات، إذ أن ذلك ينتج اتساع الفجوة التجارية، التي لا يمكن توظيفها بالخلل الظرفي، بل أضحت مشكلة هيكلية متكررة، خصوصًا في قطاع الطاقة.
فعلى الرغم من الأخبار شبه اليومية عن اكتشافات جديدة، إلا أن مستويات الإنتاج الفعلي من الغاز والبترول، تواصل الانحدار، ما أجبر الدولة على الاعتماد أكثر على الاستيراد، بتكلفة أعلى في حين أن الأخذ بالتحذيرات السابقة كان من شأنه أن يقلل التكلفة.
وقد شاركتُ في أكثر من تحليل خلال الأعوام الثلاثة الماضية للتحذير من هذا التعرض المزمن لنقص الطاقة باعتباره أحد أبرز نقاط الضعف الهيكلية في الاقتصاد، إلى جانب ضعف قدرة الدولة على تعبئة الإيرادات واتساع بصمتها في الاقتصاد.
الأرقام المطلقة.. فخّ العناوين
وعليه، فالاقتصاد لا يُقاس بالأرقام المجردة التي قد تبدو براقة في ظاهرها لكنها تحمل دلالات مغايرة عند وضعها في سياقها الصحيح.. مثلا وجود عجز تجاري بقيمة 4.4 مليار دولار لا معنى له إلا إذا تمت مقارنته بالناتج المحلي أو بالاحتياطي النقدي.
كما أن تحقيق موارد دولارية مرتفعة لا يُعد إنجازًا إذا لم تغطِ فاتورة الواردات وخدمة الدين، حتى الموازنات العامة التي توصف كل عام بأنها “الأكبر في التاريخ” لا تعكس إصلاحًا، بل مجرد نتيجة طبيعية للتضخم واتساع الاقتصاد الاسمي.
فالأرقام المطلقة قد تُصنع منها العناوين الصحفية، لكنها لا تكشف الحقائق ولا تُظهر عمق المشكلة، بل قد ينظر إلى ذلك على أنه محاولة للتغطية على تقصير ولفت الانتباه عن مواطن الخلل الحقيقية في المنظومة.
انتقائية الخطاب: نصف الحقيقة
واللافت حقا ليس فقط طبيعة الأرقام، بل طريقة تقديمها، بالاعتبار إلى أن تصريح الحكومة عن الموارد الدولارية قد انتشر بقوة لأنه صيغ في قالب إيجابي جذاب، بينما بيانات CAPMAS عن العجز التجاري مرت بهدوء، رغم أهميتها البالغة.
وبهذا الشكل، يتعرض الرأي العام إلى نصف الحقيقة: إنجازات رقمية تُسوّق بعناية، في حين تبقى المؤشرات التحذيرية أو السلبية بلا صدى، وهذا في حد ذاته مؤشر زائف؛ لأنه يعطي انطباعًا بإنجاز غير مكتمل ويؤجل النقاش حول الحلول الحقيقية.
من الأرقام إلى المسارات
ما تحتاجه مصر ليس رقمًا تاريخيًا في أسبوع أو شهر، بل مسار اقتصادي متماسك ومستدام، فالتحسن في الموارد الدولارية مهم، لكنه لا يغني عن إصلاحات تقلص الاعتماد على الاستيراد وتعزز القدرات الإنتاجية والتصديرية.
وبالمثل، العجز التجاري الكبير ليس حكمًا بالإعدام، لكنه إنذار متجدد بأن المسار الحالي يحتاج إلى تعديل هيكلي وأن المواجهة الفعلية قد حانت بدلا من التأجيل المستمر.
أما المسؤولية السياسية، فهي لا تُقاس بإعلان “الأعلى في التاريخ”، بل بقدرة الدولة على إدارة مسار كامل يوازن بين الموارد والالتزامات، ويترجم الأرقام إلى أثر ملموس في حياة المواطن.
ناهيك أن الإفراط في التباهي بالمؤشرات المطلقة، بينما المواطن لا يشعر بتحسن في الأسعار أو فرص العمل أو مستوى الخدمات، لا يبني ثقة بل يثير السخرية، فالأرقام قد تصنع عناوين براقة، لكن التاريخ الاقتصادي الحقيقي لا يصنعه رقم منفرد، بل مسار طويل الأمد يتجسد أثره في معيشة الناس.


