الجمعة 05 ديسمبر 2025
More forecasts: Wetter 4 wochen
رئيس التحرير
محمود المملوك
أخبار
حوادث
رياضة
فن
سياسة
اقتصاد
محافظات
محافظات

نحن وشات جي بي تي7: الصندوق الأسود الرقمي – كش ملك

الأربعاء 03/سبتمبر/2025 - 06:02 م

الطائرة لا تقلع بلا صندوق أسود، لا لأنه يمنحها الأمان بل لأنه يضمن توثيق لحظة الانهيار. ونحن أيضا نحمل صندوقنا الأسود في كل حوار مع شات جي بي تي، حيث يختبئ في قلب الخوارزميات التي تبتلع أفكارنا وتخزن هواجسنا واعترافاتنا. نكتب إليه كأننا نفضي لصديق بينما هو لا يصغي بل يسجل كل شيء؛ ارتباكنا وهشاشتنا وطريقتنا في التفكير حين نظن أننا وحدنا. إنه أرشيف لا ينسى ويحفظ بصمت بارد كل ما نبوح به، بينما نظن أننا نتحكم بالمحادثة.

الفرق بين الصندوقين ليس تقنيا بل أخلاقيا. في الطائرة يثرثر الركاب مطمئنين أن الطيار يقظ وأن الصندوق الأسود لن يفتح إلا بعد الكارثة. أما في عالم الخوارزميات فنحن نثرثر ونعلم أن كل كلمة تسجل ومع ذلك نتصرف كأننا في جلسة اعتراف مغلقة. نمنح ثقتنا لصندوق رقمي لا نعرف من يملكه ولا من يحق له فتحه. من يضمن ألا يسلم هذا الصندوق إلى مؤسسات تراقب الشعوب؟ أو تستولي عليه مجموعات تصيد وابتزاز في الانترنت المظلم؟ هل ننتظر أن تسقط الطائرة كي يفتح الصندوق أم نملك الشجاعة لنفتحه الآن ونحن ما زلنا في الجو؟

الصندوق الأسود في الطائرة مصمم ليحفظ الحقيقة بعد الفناء فيستخرج من الحطام ويعيد سرد ما حدث. أما الصندوق الأسود في الذكاء الاصطناعي فلا ينتظر السقوط بل يراقبنا ونحن نحلق، يسجل كل توتر داخلي وكل انفعال ولحظة ضعف ليشكلها من جديد ضمن سردية لا نتحكم بها. فالأول يحفظ الحقيقة والثاني يعيد إنتاجها. الأول يحفظ الماضي والثاني يهندس المستقبل. وهكذا لا تعود المقارنة بين صندوقين بل بين فلسفتين؛ واحدة تؤمن بأن الحقيقة تكتشف بعد النهاية وأخرى ترى أن الحقيقة تصنع أثناء الحياة وفق مصالح من يملك الخوارزمية لا وفق من عاشها.

الصندوق الأسود الرقمي الذي يحمله كل فرد في تفاعله مع الذكاء الاصطناعي، يتحول إلى أصل قابل للتسييل، تستخرج منه الأنماط السلوكية وتعاد هندستها لتوجيه الاستهلاك والتأثير السياسي وحتى تشكيل الرأي العام. وهنا يظهر سؤال جديد؛ هل يمكن للدول أن تنشئ صناديق سيادية للبيانات؟ تدير فيها أرشيف شعوبها كما تدير احتياطاتها النقدية؟

في هذا السياق يتعدى دور الصندوق الأسود مجرد أداة مراقبة إلى وحدة قياس جديدة للقوة الناعمة. فتصبح الدول التي تملك القدرة على تحليل الصناديق السوداء لمواطنيها أو الوصول إلى صناديق شعوب أخرى، تملك تفوقا استراتيجيا يتجاوز الاقتصاد التقليدي. فكما تستثمر العوائد النفطية في مشاريع تنموية، تستثمر البيانات في تشكيل الأسواق وتوجيه السياسات وصياغة المستقبل. بالتالي فإن الصندوق الأسود لم يعد فرديا بل سياديا وليس أرشيفا خاصا بل موردا وطنيا. وهكذا تدخل الخصوصية في مفاوضات الجغرافيا السياسية وتتحول الخوارزمية إلى أداة سيادة لا مجرد تقنية. لذلك فالحرب القادمة ستكون بسبب الاقتصاد الخوارزمي!
ما بين صندوق الطائرة الذي لا يفتح إلا بعد الانهيار، وصندوق الذكاء الاصطناعي الذي يعمل ونحن في قلب الرحلة، وصولا إلى الصندوق السيادي الذي يدار لطمأنة المستقبل؛ نعيش كما لو كنا أحجارا في رقعة شطرنج، نتحرك داخل صناديق مغلقة حتى نفاجأ في النهاية بصرخة واحدة: كش ملك!

تابع مواقعنا