أسوار بودا
مع نهاية القرن الماضي استحضرت مصر فكرة الـcompound السكني الأمريكية وبدأت فكرة الكومباوند تسيطر على المصريين بعدما قضوا عقودا طويلة جيرانا بالعمارات، ومع توسع الدولة في المناطق الجديدة وتشييد مجتمعات عمرانية مستحدثة باتت فكرة الكومباوند فكرة يعيشها الملايين من أبناء طبقات بعينها أغلبها من الطبقات العليا والمتوسطة العليا تاركين مناطق وسط البلد القديمة كالمعادي والزمالك والدقي وغيرهم لطبقات أخرى.
لا أعلم سبب ربطي لهذا المشهد بقصة بودا الشهيرة، هذا الأمير الذي عاش في قصر مليء بالترف والراحة، وحماه والده من رؤية أي معاناة في الحياة، لكن عندما خرج خارج أسوار هذا القصر لأول مرة، شاهد أربع مشاهد غيّرت تفكيره ونظرته للحياة الدنيا؛ المشهد الأول كان رجلًا شيخًا متعبًا منهكًا من عوامل الزمن، وبسؤال بودا لموافقه عنه عَلِم أن الشيخوخة قدر لا مفر منه، والمشهد الثاني كان لرجل مريض فعَلِم من مرافقه أن المرض موجود ويصيب كل البشر، وجاء المشهد الثالث لجنازة ليدرك بودا للمرة الأولى في حياته أن الموت نهاية حتمية للجميع، أما المشهد الرابع فكان لراهب زاهد مستكينًا فعَرِف أن هناك طريق للسلام الداخلي.
قيم ومعاني وحقائق حجبها السور - أعني سور قصر الأمير بودا - عنه، وهو نفس الشيء للأسف الذي حدث ولا زال يحدث مع أغلبية جيل تربي داخل أسوار الكومباوند حيث تصورا أن الحياة داخل الأسوار هي الحياة وأن الوطن داخل هذا السور والنتيجة صادمة فبمجرد بلوغهم سن الرشد والخروج للعمل الاحترافي يصطدمون بالواقع وأفكاره ومقدراته ولا يجدون كيفية للتعامل والتعايش والتكيف من أجل الاندماج مع المجتمع الحقيقي الذي حجبته أسوار الكومباوند.
إنها ليست دعوة ضد الكومباوند ولكنها ناقوس خطر يحذر من الاكتفاء بتلك الحياة لسنوات عديدة في تصور خاطئ من ولي الأمر أنه يحافظ ويحمي ابنه أو بنته من مخاطر ما وراء الأسوار، الاحتكاك وعدم العزلة هما الحل لتربية جيل ناشئ يدرك حقيقة أن الحياة ليست أبدًا داخل الأسوار بل العكس تماما هو الصحيح، فأسوار الكون لم ولن تستطيع الإحاطة بالحياة لأنها باختصار شديد هي الطبيعة.


