عصافير وأفاعٍ
في طليعة صباح 7 أكتوبر من العام 2023، قررت العصافير أن تنتفض قليلًا للدفاع عن أعشاشها ضد عدوان لا يرحم صغيرًا ولا يرأف بكبير.. عدوان يغزو الحقول وينهب السنابل، قوتها وقوت صغارها، وينشئ بدل الأعشاش والأشجار أوكارًا للعقارب والأفاعي.
العصافير على صغر حجمها، لم تعرف الاستسلام، فصفّت أجنحتها في سرب واحد، وغنت بأصواتها النديّة لتنبه الغافلين من حولها، وتزعج مسامع العدوان بأصوات لطالما عمل على إخراسها.
أدركت الأفاعي والعقارب أن العصافير باتت تشكل خطرًا حقيقيًا على حياتها، فلربما أنصت للحنها الرقيق جوارح الطيور من صقور ونسور وعُقبان، فتأتي لتتلقفها من مخابئ الأرض بمخالب ومناقير ذات بأس شديد.
فما كان من الأفاعي، إلا أن تشتد في زحفها وتلتف حول جذوع الأشجار هنا وهناك تنفث سمها في الأغصان، وتنشر الفزع في كل عش وزهرة وكل نسمة هواء، والعقارب تضرب بأذيالها كلما لاح جناح عصفور.
لكن العصافير، لم تعرف اليأس، ولم ترتض أن تهجر سماءها، وصارت تحلق في دوائر متقطعة، تضلل عدوها، وبين كل حين وحين، تغرس مناقيرها الصغيرة -من المسافة صفر- في عيون الزواحف السامة.
وبعد عامين، وبعد أن فقدت العصافير العديد من قادتها وحراس أعشاشها وسط مذابح ارتقت بآلاف الأرواح وخلّفت أضعافها جرحى ومصابين، لا تزال الأفاعي لم تنل بُغيتها، فلم تهجر العصافير سماءها ولم تكف عن الزقزقة.
أيقنت العصافير أن الزمن كفيل بأن يكشف خداع الأفاعي، ويضعف سمها، فازدادت زقزقتها، لتحمل كل نغمة وصية شهيد ودمعة أم ودعت فراخها، وصارت أصواتها لحنًا تفهمه كل الكائنات الحرة؛ بأن البقاء ليس هبة تمنح، والجذر لا يُقتلع طالما هناك أجنحة تحلق أعلاه.
وبينما كانت الأفاعي تتهيأ لهجمات جديدة، سمعت في السماء خفقات أجنحة ترددت على مسامعها قبل 50 عامًا أفزعت قلوبها، إنها طيور أخرى من وراء الجبال والوديان، جاءت تحمل السنابل لا لتأخذ العصافير إلى أماكن أخرى، ولتؤكد أحقية العصافير في إعمار أعشاشها.
الأعشاش باتت في انتظار استعادة خُضرتها، وتعالت أصوات مختلف الكائنات بأنشودة الصمود لإيقاظ في كل كائن حيّ إحساسه الأول بالكرامة والحق في الحياة.
وفي غمرة الزحف الأخير للأفاعي، وبينما الضباب يغلف المشهد، تنتظر العصافير الفجر الذي، وإن تأخر، سيجيء.


