في ميزان العلم والعمل.. تتحول الأزمة إلى ثروة
على مدى عقود طويلة ظل قش الأرز يمثل أزمة موسمية تتجدد وتتكرر كل خريف في دلتا مصر التي تغطيها الغيوم السوداء الناتجة عن حرقه، بما يعرف بـ«السحابة السوداء» التي كان يمتد أثرها إلى قلب القاهرة.
ورغم العقوبات التي فرضتها الدولة للحد من الظاهرة، وحتى المحفزات التي شرعت في منحها للفلاح لم تؤت ثمارها حينئذ، حتى بدت الدولة تدرك أهمية الخطوات العملية التي تجعل من هذه المخلفات الزراعية بابًا للاستثمار، بدلًا من أن تكون عبئًا بيئيًا يهدد حياة الناس والصحة العامة للمجتمع.
وتنتج مصر ما يقرب من 5 إلى 6 ملايين طن من قش الأرز سنويًا، أصبح اليوم يدر دخلًا هامًا للفلاح، ولو أُحسنت الدولة استغلال هذه الكميات بشكل أكثر توسعًا، يمكن تحويلها إلى مصدر دخل أكبر بكثير للمزارعين، وعنصرًا أساسيًا في صناعات متعددة تجعلها ثروة حقيقية لمصر.
مؤخرًا، بعد توفير ماكينات خاصة بجمع مخلفات الأرز وكبسها وجعلها مادة خام للصناعات، تدخلت في العديد من الصناعات المحلية التي عززت من قيمتها، مثل صناعة الأخشاب والورق وغيرها، كما تستخدما الدولة في صناعة الأسمدة الزراعية، ويستخدمها الفلاح كعلف للماشية.
ولعل الجانب الصناعي يرجع الدور الأكبر فيه إلى رؤية الدولة، بينما الجانب الطبيعي الذي يعتمد عليه الفلاح يرجع إلى غلاء أسعار الأعلاف في الأسواق، ما يوفر مصاريف كانت تثقل كاهل المزارعين والمربين.
ولم تتوقف قيمة أعواد القش عند الورق والخشب فحسب، بل أجرى باحثون مصريون دراسات أثبتت إمكانية استخراج مواد منه تستخدم في صناعة أقراص دوائية وكبسولات مقوية، إضافة إلى أبحاث أخرى تركز على مادة السليكا التي يحتويها القش بنسبة عالية، وتعد مادة أساسية في صناعات عديدة من بينها الزجاج والرقائق الإلكترونية.
كما أن دولًا مثل الهند والصين، يملكان مساحات هائلة من الأرز، يقوما باستغلال قش الأرز في إنتاج الطاقة الحيوية والغازات المختلفة، وهو ما يفتح بابًا جديدًا أمام مصر يكون أكثر انفتاحًا على الصعيد الصناعي، للاستفادة من التجارب الدولية، خاصة في ظل السعي لزيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة.
الدروس المستفادة
ولعل ما دفعني لكتابة هذا المقال، ما أكدته هذه التجربة من رسالة واضحة أن الأزمات التي نعاني منها على كافة الأصعدة، مهما بدت صعبة ومعقدة يمكن أن تتحول إلى منح حقيقية، إذا وضعت في ميزان العلم والعمل.. فالقش الذي كان يومًا يؤرق المجتمع ويغطي دخانه سماء أم الدنيا، أصبح اليوم ثروة قومية في الصناعة والزراعة والدواء.



