عدو جوّاك
مواقفنا الطفولية ميزتها إنها بتفضل عالقة في الذاكرة مهما مر عليها سنين.. يمكن عشان كده كل اللي بنتعلمه وإحنا صغيرين هو اللي بيشكل أساس شخصياتنا بعد كده.. المدرسة الإعدادية اللي كنت فيها اسمها مدرسة (طه حنفي) مدرسة حكومية؛ صمم والدي الله يرحمه إني أدخلها بعد ما كنت في مدرسة لغات خاصة في المرحلة الابتدائية ورغم إني كنت طالع الثالث على المحافظة في الشهادة الابتدائية وقتها إلا إنه كان له بُعد نظر، إنه عايز يخليني أجرب وأتمرمط شوية في الدنيا لأن المدرسة اللغات كده كده مسيري هسيبها في الثانوي أو الكلية أيًا كان هسيبها هسيبها.. فيبقى الأفضل إني أسيبها بدري بدري عشان أقدر أتعود.
دخلت مدرسة (طه حنفي) ومن أول أولى إعدادي كان معايا واحد فـي الفصل اسمه أحمد صابر.. المناطق المشتركة بيني وبينه كانت كتير.. كان معايا في الفصل، وكان معايا في الدرس الخصوصي بتاع الرياضيات اللي كان بيديهولنا أستاذ أيمن وحيد، وكان جاري بيني وبينه 3 شوارع بالظبط، وكنا إحنا الاتنين في فريق المدرسة بتاع الكورة.. والأهم من كل اللي فات كان فيه ندّية وتحدي بيني وبينه دراسيًا. في امتحانات الشهر كنا بنتبادل أنا وهو الأول والتاني على طول؛ بس هو كان أكتر مني. يعني مرتين هو ومرة أنا وهكذا.. ولما كان أبويا الله يرحمه يسألني عملت إيه في الامتحان أقوله: جبت 48 من 50.. يرد: (حلو؛ المرة الجاية تجيب النهائية إن شاء الله). أرد عليه بغيظ: (أيوه بس أحمد صابر جاب 50 من 50)!
بقيت "بغير" منه لدرجة إن أي نجاح أو درجات عالية ماكنش ليها أي معنى عندي إلا لو كانت أعلى من درجات أحمد، مش هبالغ لو قلت إني أوقات كنت بحس إني بكرهه رغم إن الواد ماعمليش حاجة أصلًا! الحقيقة إن المشكلة كانت عندي أنا لكن هو كان بيتعامل معايا عادي وولا على باله أساسًا.
استمر الوضع ده لحد تالتة إعدادي وفي يوم رحت المدرسة الصبح في بداية تاني شهر في التيرم التاني والمفروض كنا هنعرف في نفس اليوم نتيجة امتحانات الشهر اللي فات. أحمد يومها ماجاش وماكنش واقف في الطابور زي العادة!
بدأت الإذاعة المدرسية وأستاذ "صفوت" ناظر المدرسة اللي شخصيته وشخطته كانوا قادرين يخلونا نعملها على روحنا؛ راح مسك الميكروفون وكان باين إن فيه حاجة مش طبيعية وقال بصوت مخنوق (البقاء لله توفي إمبارح زميلكم "أحمد صابر" في فصل تالتة رابع وهو بيعدي مزلقان الإبراهيمية راجع من درس العربي؛ إقروله الفاتحة).
فاكر الجملة بتاعته بالنص كدة؛ زي ما أنا فاكر لحظة الصمت الرهيب اللي رنّت في الحوش وقتها، بكيت بحرقة يومها ومش فاكر إني بكيت بنفس الطريقة اللهم إلا من سنتين لما والدي الله يرحمه توفي، حسيت كأني فقدت حتة مني!. وبقيت أكلمه كأني شايفه قدامي وأقوله كان فين الحب والمعزة والغلاوة بتوعك دول مستخبيين جوايا يا أحمد!
تدريجيًا بقيت حاسس غيابه واكتشفت إني ضيعت من عمري واحد كان ممكن يبقى أعز صاحب عشان بس كان في ستارة وهمية تافهة من ناحيتي مكلبشة علاقتنا اسمها (الغيرة). بالمناسبة لما النتيجة طلعت كنت أنا الأول وأحمد الله يرحمه التاني؛ بس دي كانت المرة الوحيدة اللي مافرحتش فيها لا بالنتيجة ولا كنت منتظرها. من تقدير ومحبة الناس كلها له؛ أحمد صابر لحد النهاردة اسمه منور لوحده في لوحة شرف خاصة في أوضة مدير مدرسة "طه حنفي" الإعدادية بنين.
الغيرة زيها زي أي حاجة لما بتزيد عن حدها بتتقلب لضدها، حبل رابط بين اتنين، بإيديك أنت إنه يكون حبل "ود" حرير وناعم محسوس بس مش متشاف.. وجوده بيثبت إننا مع بعض.. واثقين في بعض.. مكملين مع بعض، في إيديك برضه إنه يكون سلسلة حديد بتتلف حوالين الرقبة وتخنق.
كلنا بنغير بس مش كلنا بنتصرف بذكاء مع الغيرة.. إحساس اللي قدامك بأنوثتك كـ ست أو برجولتك كراجل مالهاش علاقة لأي درجة أنت مسيطر عليه وعادد عليه تحركاته وأنفاسه! ماتكلبشوش الناس بالغيرة عشان في قلوبنا ماحدش بياخد مكان حد. اللي عايش طول الوقت في مقارنة، عمره ما هيستمتع بطعم أي إنجاز يحققه؛ لأن عينه مش على نفسه لكن على غيره.
الغيرة لو ما اتحجّمتش، ممكن تخليك تخسر أغلى علاقاتك من غير ما تحس، كل ما الغيرة تملكت من القلب كل ما كانت دليل على قلة ثقة الشخص بنفسه. الحياة مش سباق مع الناس.. الحياة سباق مع نفسك، وإزاي النهاردة تكون أفضل من نفسك امبارح، وإزاي بكره تكون أفضل من النهاردة.. كل مرة تكسب فيها نفسك وتكسر جواك شعور الغيرة، بتكون أقوى، وأهدى، وأقرب لراحة البال اللي كلنا بندوّر عليها.


