موعظة القطة | قصة
كان صباحا ربيعيا مشمسا، أجواؤه بها شيء من البرودة التي تميز هذا الفصل المعروف برائحة الزهور العطرة، ورائحة الفسيخ العطنة.
استيقظ مبكرا، ارتدى أفضل ما عنده، حلق ذقنه، فرش أسنانه، ومشط شعره، ثم وضع عطرا فواحا مِلك والده. نظر في المرآة قليلا يخاطب مجهولا في عينيه غير أن الكلمات لم تكن حاضرة، مكتفيا بإنعام النظر في وجهه مدة 3 دقائق، لا يعرف أي حوار دار في حينها، إلا أنه أحس بغُصة في صدره.
استقل الحافلة إلى حيث وجهته، وكان السائق يبطئ حد الملل أحيانا، ثم يقود بسرعة جنونية وكأنه يهرب من الشرطة أو يريد قتل نفسه والركاب. وكان بين هذا وذاك يتساءل هل سيصل؟ هل سينجح؟ هل سيتغير واقعه؟
نزل من الحافلة وكعادته التي يتعجب لها الناس، شكر السائق وهمَّ بالنزول إلا أنه ذكره بطريقه ناصحا إياه أن يسلك هذا الشارع إلى آخره. نظر له مبتسما ولما تحركت الحافلة قال في سره: ألم يقل لي إنه سينزلني أمام المبنى، لم يخبرني أنني سأسير كل هذا!! لا بأس، يبدو أنني سأعيش وأموت وأنا في سير دائم.
قالت له زميلته إنها شركة دعاية جديدة، وهم يحتاجون إلى من يحركون منصاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو أمر يجيده بعيدا عن تخصصه الأصلي إذ عمل معلما للّغة العربية عدة أشهر بعد تخرجه.
دلف من الباب فلم يجد أحدا، إذ قال له حارس العقار الذي يوجد به مقر الشركة أن الباب مفتوح لكنه لن يجد أحدا الآن، المكان حديث وهم جميعا يأتون متأخرين.
كان المكان مؤسسًا من الداخل بطريقة أنيقة، أثاث مكتبي بسيط، صالة عمل بحواسيبها باهظة الثمن، تأمل كل هذه التفاصيل، وأعجبه اللوحتان اللتان علقتا على الحائط، إحداهما كانت لأب يحتضن ابنته الشابة وهي بفستان الزفاف وخلفها عريسها يبتسم متأثرا.
وخلال 20 دقيقة وجد امرأة عجوزا، تدخل من الباب مسرعة وعلامات التوتر بادية على قسمات وجهها، تفاجأت به في بادئ الأمر وقبل أن ينطق بأي شيء؛ رحبت به وقالت إن رئيس المؤسسة أخبرها أنه آتٍ في الصباح، لكنها لم تتوقع أن يكون باكرا لهذه الدرجة. تعجب لآخر كلمة قالتها، إذ كانت الساعة الآن الـ 10 والنصف!!
أحضرت له العاملة مشروبا غازيا، ومعه كعكة محشوة بالكريمة، وهي تبتسم، أسرّه حسن الاستقبال، فبادلها الابتسام شاكرا، ثم شرع في تناول الكعكة وتجرع المشروب الغازي. بعد هذا الموقف قال في نفسه: ربما تكون هذه فرصتي، ربما أعوض الشهرين الماضيين اللذين قضيتهما بلا عمل، بعد أن تركت عملي القديم بسبب عدة مشاكل أبرزها، مشاجرتي مع مديرتي التي اتهمتني بإساءة الأدب معها.
وبينما هو سارح في تذكر الماضي، واسترجاع أفضل الذكريات وأسوأها، تراءى له ظل أحد يمشي، ثم سمع وقع أقدامه فإذ به شاب في الثلاثين من عمره، تمثل قُبالته فجأة، وعندما تلاقت نظراتهما، اتجه إليه الشاب مصافحا إياه، ومعرفا نفسه بمسؤول الموارد البشرية، ثم سأله هل أنت زميلنا الجديد؟ أجابه بـ نعم، ثم اصطحبه إلى مكتبه.
أخذ الحديث بينهما يطول، وتطرق لعدة أمور ممثلة في نظام العمل داخل المؤسسة، والمرتبات، والحوافز والإجازات، ثم استطرد كلاهما في الجوانب الشخصية، مثل أين تسكن، ومتى تخرجت في الجامعة، وما هي أغانيك المفضلة. تفاجأ كلاهما من أمرين: أولهما أن مسؤول الموارد البشرية في الـ 33 وهو في الـ 26، وأن كلاهما يحب سماع جورج وسوف وأم كلثوم.
طرقت العاملة الباب، ثم قالت له إن الرئيس حاضر في مكتبه وسيلاقيه بعد ربع ساعة كحد أقصى.
وقف خلف الباب لثوانٍ، ثم طرق الباب ثلاثا، فسمع صوتا من ورائه يقول: تفضل بالدخول، حرك المزلاج محدثا صوتا، ودفع الباب ببطء ثم تراءى قبالته.
كان رجلا متوسط الطول لائقا بدنيا ليس بالسمين أو النحيف، وجهه يحمل ملامح قاسية وسمرة داكنة قليلا، وشعره طويل قليلا ومتعرج وبه شيء من الشيب أعاده إلى الخلف، كان يمسك قلما عند دخوله، وفي يده ورقة بيضاء يدون فيها بضعة أرقام، ثم يرتشف باليد الأخرى شيئا من القهوة الموضوعة بجانبه. تسمر قليلا حتى أذن له بالجلوس، فجلس الفتى على المقعد منتظرا منه أن يتحدث إلا أنه ظل صامتا، فبادر هو بالحديث محييًا إياه، ومعرفا بنفسه واضعا قبالة رئيس المؤسسة سيرته الذاتية. تناولها ثم أخذ يقرأها على مهل.
- حسنا، أنت جيد، سيرة حافلة بالشهادات والدورات المتنوعة، غير هوايتك التي تدل على كونك محبا للفنون على مختلف أنواعها، وتقديرك في شهادة التخرج مقبول 83%.
أحس بالسرور يجتاحه عند سماعه هذه الكلمات، وكان على وشك إطلاق بعض كلمات الشكر والامتنان، إلا أن الرئيس أوقفه قائلا: ولكن هذا غير كافٍ للأسف.
كأنه باغته بإلقاء حجر على رأسه، لم يصدق ما قاله، استطرد المدير قائلا: إذا أردت الانضمام إلينا عليك أن تجتاز هذه الدورات ومن أماكن محددة بعينها.
ابتلع ريقه، وقال بتردد: لم أسمع بذلك حقا، أعني أنني أجيد وظيفة على نحو جيد. قاطعه المدير قائلا: وهنا نريده على نحو يفوق الممتاز. جحظت عيناه وبرودة اعتلت جبهته وصفرة أخفت لون وجه الأسمر بعد سمعه كلمته الأخيرة.
- في المجمل، هذه الدورات ستكلفك بعد الخصم 11 ألف جنيه.
تعجب من كلمة خصم التي تلفظ بها، لكنه سرعان ما تساءل: ألا يمكن أن أخذ هذه الدورات من مكان آخر، هذه الأسعار باهظة ولا أستطيع تحملها.
- صراحة لا يمكن ذلك.
- لماذا؟
- هذه أمور خاصة، لكن يمكن أن تعتبرهم شركاءنا.
شركاء!! هل هي تجارة من نوع ما، قال هذا في نفسه ثم تسرب إليه شعور بعد الارتياح، وخيل إليه أن وجه هذا الرجل بدا يأخذ ملامح وحش مخيف تظهر أسنانه الأمامية كسكاكين ستمزقه إربا، غير عينيه اللتين اندفعت فيهما حمرة كأنهما الجحيم، في تلك اللحظة كانت ابتسامته الصفراء هي أقبح شيء رآه في الوجود
- ولكي أكون معك صادقا، هناك من هم أفضل منك قد تقدموا لنفس الوظيفة، ويجب أن تكون مثلهم.
كان لوقع الكلمة الأخيرة صدى واسع في نفس ذلك الشاب الذي عاش حياته دائما في مقارنات سواء من أسرته أو أصدقائه في الجامعة ومن قبلها المدرسة، وصولا إلى زملائه في العمل وبعض العامة الذين يقابلهم مصادفة. استجمع شجعته، واعتدل في مقعده، ثم ضم يديه واضعا واحدة منها على المكتب وبصره مصوبا ناحيته كأنه قناص يسعى لاصطياد فريسته، ثم قال:
- ليكن في علمك أنني لا أقارن بأحد، وإذا أردت أن تجامل أصدقاءك وخاصتك على حساب الكفاءات، فلن أكون جزءا من التجارة التي تديرها مع هذه الجهات المشبوه.
صُدم رئيس المؤسسة مما قال وبدا على وجهه أمارات الصدمة، لم يكد يقول كلمة، حتى باغته الفتى: على العموم، لست متضايقا إن لم تنعم عليّ بدخول جنتك، فجحيم البسطاء عندي أهون من أي فردوس مزعوم، إلى اللقاء.
خرج مسرعا، وقد صفع الباب في وجهه، مما أثار قلق العاملة التي جرت على مكتب رئيسها فورا، أما بقية العاملين فقد التزموا الصمت كأنهم ألفوا هذا المشهد سابقا.
جلس على أحد المقاعد المخصصة لانتظار المواصلات، مطأطأ رأسه واضعا إياها بين ذراعيه غير مصدق أن يومه حوى خمس مشاعر، أمل ثم طمأنينة ثم قلق ثم غضب ثم رضا عن نفسه لأول مرة يحس به، كأنه انتصر على أعتى قوى الشر في العالم، عاش عمره قلقا متوترا مزعزعا من الداخل، أما اليوم فقد اعتلى صدره فخر بذاته بل أمل في أن الغد أفضل.
سئم من الجلوس منتظرا، فقام من موضعه يتمشى قليلا في أحد الشوارع الجانبية، حيث المباني ذات الطابع الراقي والهدوء العجيب الذي يحيط بها. وبينما هو سائر بلا هدى استوقفته شجرة وارف أغصانها يتخللها ورود حمراء رقيقة تضيئها أشعة الشمس كأنها مصابيح صغيرة؛ استظل تحتها قليلا وأخرج كتابا يقرأ فيه واضعا سماعات الأذن.
وبينما هو مستغرق في القراءة مع صوت عبد الوهاب وهو يغني « بيني في الحب وبينك ما لا يقدر واشٍ يفسده»، أحس بشيء يحك في قدمه اليمنى، فنظر أسفله فإذ بها قطة رمادية صغير، مواؤها ضعيف جسدها نحيف، ظلت هكذا لدقيقة كاملة، لم يفهم في البداية ماذا تريد، فأشارت برأسها إلى ناحية ما، فنظر معها ولما أمعن النظر وجد بقالة أمامه.
لثوانٍ لم يستطع ربط كل هذه الإشارات حتى أدرك أنها جائعة تريد طعاما من هناك، ذهب تلقائيا إلى حيث أشارت برأسها، طلب من صاحب المكان لانشون قائلا إنه للقطة، فتعجب الرجل متسائلا: عجيب!! هي دائما ترفض تناول الطعام من يد أي أحد، هل ستطعمها؟ أجابه بنعم مضيفا أنها هي من طلبت ذلك، ضحك الرجل غير مصدقا ما قال غير أنه أعطاه طلبه.
سارع الفتى إلى حيث ترك القطة، فوجدها هناك جالسة على قدميها الخلفيتين، فوضع لها الطعام ثم أخذت في تناول اللانشون، في البداية أخذت قطعة واحدة تصارعها لكي تمزقها أجزاءً صغيرة، ثم سحبت الطبق الفوم إلى مكان خاص بها كأنها تحميه من بقية القطط. دهش الفتى مما رأى حقا، وارتسمت على وجهه علامات السعادة كما لم تكن يوما، رغم كل ما مرّ به في هذا اليوم، فقد أدرك معنى جميلا يصعب عليه وصفه وتفسيره.


